الأهرام
محمد قطب
الخطاب بين التجديد والأداء..
فى مقالة (تجديد الخطاب الدينى) بقضايا وآراء أثار د. أحمد يوسف الأشجان، وأبان عن دلالة مهمة تلامس الموضوع وهو موقف أئمة المساجد فى خطبهم الدينية من الهدف الذى نتمناه لنجاح خطاب التجديد وتنقية الرسالة من الشوائب التى تعلق بها ومواكبتها للعصر ولمجالات العقل المستنير.. وسجل ما قاله الخطيب على المنبر وهو يصرخ حين رآه يسند ظهره الى الحائط، (إن الشيطان يكمن فى الحائط، وإن ملامسة ظهرى له يبطل صلاتى..)

واستعدت وأنا أقرأ المقال ما حدث معى حين أدركتنى صلاة الجمعة وأنا قريب من كازينو شهير بجوار كوبرى قصر النيل. وكان يتردد منه صوت الخطيب وهو يبدأ خطبته بحمد الله والصلاة على رسوله. ودخلت، كان المكان زاوية ضيقة، والإمام يرتدى جلبابا قصيرا وطاقيته تهتز وتسقط على كتفه كلما أرتج حديثه.

واندهشت ـ كغيرى ـ من حديث الرجل حول الغسل من الجنابة والعلاقة الزوجية. وأشار بيده وصوته يرتفع قائلا: إن من يذهب الى الغائط ـ مكان قضاء الحاجة ـ عليه أن يتطهر بالحجر الأملس، ويكره الحجر الخشن، ويجزئ له ثلاثة أحجار ملساء.

.. ودور كفه كأنه يقبض على شىء وواصل قوله: ليس هناك ما يمنع أن يحتفظ المسلم بعدد من الحجارة لهذا الغرض.

ثم انتقل الى الغسل من الجنابة فقال: إن الغسل يجزئه ملء ثلاث قلال بالماء.

وهذا الماء يكفيه ويرفع الحدث الأكبر.. وعلا صوته، ومد ذراعه وصوب إصبعه وهو يحذر الجالسين من اللعنة التى تلحق بهم إذا أتى الرجل امرأته.. فى دبرها، ولن يرفع حدثه الأكبر ولو اغتسل بماء السماء!!

وظل الرجل يردد عددا من الأمور التى تحدث بين الرجل وامرأته دون مراعاة للذين يرتادون المكان وفيهم نساء متزوجات وآنسات.. ولم يهتم بالدهشة العالقة بالوجوه، ولا بنظرات الاستنكار من المصلين.. وختم خطبته بقوله: إننى أوجه نصيحتى للأخت المسلمة أن تتمسك بأمور دينها، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تتأسى بقيم الإسلام فى أمورها الدينية، والدنيوية وذكرها بحديث منسوب الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وشدد قائلا: رسولكم يقول (.. أيما امرأة استعطرت ـ تعطرت ـ فمرت على قوم فوجدوا عطرها فهى زانية..)

وحين انتهينا من الصلاة رأينا عددا من النساء المرتادات للكازينو، تجمعن أمام مدخل الصلاة.. وهن يصرخن فى وجه الخطيب، مستنكرات ما قاله، وغياب الأدب فى الحديث، وبعده عن قيم الدين الصحيحة.. وخدشه للحياء..

لم يستطع مواجهتهن.. ومرق بعيدا.. واختفى..

هل هذا الحديث هو الخطاب الذى نتوجه به الى الناس فى ظل الدعوة الى تجديد الخطاب الدينى؟ أين الأئمة من واقع الناس ومشاكلهم وتنوع معاملاتهم واختلاف مفردات الحياة وبيئاتها! وأين الحديث عن مكارم الأخلاق.. السماحة، والمحبة، وخدمة الأمة، والدعوة الى السلام والألفة على اختلاف المشارب والمذاهب، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ومثل هذا الخطاب يسهم فى إشاعة التسامح والمحبة والبعد عن العنف والتعصب.

وهذا الخطاب الذى ندينه ينتشر فى الزوايا والمساجد الصغيرة وسراديب العمارات وهو ملاذ يلجأ اليه البعض فى ظل غياب المؤسسة الدينية، فيملأ الوجدان، ويسد الفراغ الدينى الذى يحياه وفق المنهج المنغلق، ومن ثم يقع تحت سلطة النموذج البشرى الجانح الذى يقدمه أمثال هؤلاء الخطباء!!.

إننا نحتاج الى خطاب دينى جديد، وإعداد جيد لرجل الدين المنوط به مخاطبة الناس، وتأهيله بمعطيات العصر الثقافية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن تنقية التراث مما دخله من اسرائيليات وروايات تناقض الأصول وتتنافى مع النص والعقل ومتغير الحياة.

وهذا التوجه الصحيح لا تقوم به فقط المؤسسة الدينية، بل كل أجهزة الدولة المنوط بها تنوير العقل، وإحياء الضمير، وقطع الطريق أمام التعصب والعنف والجهالة الدينية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف