المصريون
د. حسام عقل
السيد ياسين وعبد الحليم قنديل .. الحرية المؤجلة !
كان القدر _ وحده _ هو الذي قيض لي أن أشهد ندوتين منذ شهرين تقريبا ً ، لا تفصلهما إلا فترة زمنية يسيرة للغاية . و كان موضوع الندوتين واحدا ً : ( قراءة في المشهد المصري السياسي الراهن ) . و كان القدر نفسه هو الذي جعلني قاسما ً مشتركا ً في إدارة الندوتين ؛ حيث حل في الندوة الأولى ضيفا ً أساسيا ً على المنصة الكاتب المعروف ( السيد ياسين ) : أحد أهم المنظرين للمرحلة الراهنة على المستويين : السياسي و الفكري ، فيما حل ضيفا ً أساسيا ً على الندوة الثانية الكاتب الصحفي المعروف ( عبد الحليم قنديل ) ، الذي عرف بمواقفه السياسية المشاكسة للأنظمة عبر عقود . كانت الندوتان كفيلتين بتأكيد الحقيقة التي رسخت في نفسي منذ ما يشارف السنوات الثلاث ؛ أن هذه النخبة الثقافية استنفدت كل شيء ، و أفلست في الرؤى الوطنية و الفكرية للخروج من الأزمة المصرية المستحكمة ، إلى الحد المرعب الذي يدفعنا إلى ضرورة أن نشهر لها ( الكارت الأحمر ) _ بتعبير ( قنديل ) في كتابه الشهير حول ( مبارك ) ! _ للرحيل الفوري عن خشبة المسرح السياسي ، و النزوح بعيدا ً عن دائرة الفعل السياسي ، بعد أن أنتجت رؤيتها _ شديدة العقم و العوار ! _ واقعا ً سياسيا ً مسدودا ً ، خربا ً حتى العظام ! و المدهش أن شريحة فاعلة من هذه النخبة ما زالت تتعاطى حالة الإنكار ( الترامادولي ) ، و لا تريد أن تصدق أنها صارت فعليا ً خارج المشهد ، و أن القسم الغالب من الرأي العام قد لفظ رؤاها الكسيحة و حضورها العقيم و تنظيرها الكارثي القائم _ في جوهره _ على الفاشية و الإقصاء و إرباك الأوراق أمام الحاكم و المحكوم ! والمدهش _ بالقدر نفسه _ أننا في كل مرة كنا نقدم المرآة الزجاجية الكاشفة لهذه النخبة لترى ملامح وجهها على حقيقته كما هو _ لا كما رسمه الكبر و النرجسية المتورمة _ فكانت نخبتنا المبجلة تطل علينا مجددا ً من أبراج غرورها و صلفها الشديد لتهشم هذه المرآة الصادقة ، مفضلة أن تمضي في طريق السراب و تصدير الأوهام و مزيد من انسداد الأفق السياسي لمصر ! استطاعت الأرجنتين _ بنخبة واعية مسئولة يقظة الضمير _ أن تتجاوز سنوات الوغد المتسلط ( خورخي فيديلا ) ، الذي قادها بحماقة إلى أعلى منحنيات القمع و التسلط و الإفلاس الاقتصادي الكامل ، بطرح مشروع ( العدالة الانتقالية ) _ في فترة ( راؤول ألفونسين ) عام 1983 _ حيث تم إقرار الانفراجات و المصالحات الوطنية الجادة ، الرافضة لأي إقصاء ، و تم تشكيل لجان الحقيقة و المصالحة لتتبع كل الانتهاكات الحقوقية لتتعامل معها المؤسسات المختلفة ، بالمساءلة القانونية العادلة و الحرص على ما يسمى في أدبيات السياسة ب ( جبر الضرر ) و تعويض الضحايا تمهيدا ً لإنهاء حالة الانقسام المجتمعي . و نجحت الأرجنتين بنموذج سياسي مبهر ، مازالت ثماره الناضرة تتتابع حتى اليوم . و على الطريق نفسه مضت ( جنوب أفريقيا ) ، لتنهي أربعين عاما ً من التمييز العنصري و العنف الدموي ، الذي نشر الموت في ربوعها بوتيرة مخيفة ، فابتكرت _ بإلهامات نخبتها الجديدة _ نموذجا ً عبقريا ً للعدالة الانتقالية ، مازالت القارة السمراء تفاخربه حتى الآن ، حيث تشكلت لجان الحقيقة و المصالحة التي قادها ( نيلسون مانديلا ) و القس ( ديزموند توتو ) ، و أجرت اللجنة تحقيقات نزيهة شفافة مع أهالي اثنين و عشرين ألفا ً من ضحايا العنف الأسود ، و مضت جنوب إفريقيا في طريق الديمقراطية و الإدماج السياسي للجميع _ دون تمييز _ و جبر الضرر للضحايا و الانفراجات الوطنية المشرفة التي تنفس الجميع معها الصعداء ! و لم يمض قطار العدالة الانتقالية و المصالحات الوطنية الجادة و الانفراجات الديمقراطية الكبيرة ، بعيدا ً عن المملكة المغربية الشقيقة ، التي شكلت عام 2004 ما عرف ب ( لجان الإنصاف و المصالحة ) ، لترسيخ خطوات الديمقراطية و احترام الحقوق و الحريات ، بنموذج مغربي جديد للعدالة الانتقالية ، تقصى كل الانتهاكات الحقوقية من عام 1956 ، حتى عام 1999، و نجحت اللجنة التي شكلها الملك ( محمد السادس ) في وضع المغرب على طريق الانفراجات الوطنية و التعافي الديمقراطي الكبير . وحدها نخبتنا المصرية ظلت ترقص في الفراغ و تحارب طواحين الهواء ، و تصدر الأوهام دون أن تراوح مكانها _ برغم كارثتها المحققة بإفشال المسار الثوري وتهشيم نموذج التعايش الديمقراطي الذي أمله الجميع _ فعادت تقرع دفوف الإقصاء ، و تغري بالتطاحن الداخلي ، و تصدر الخطاب التحريضي العفن نفسه ، القائم على الإقصاء و الاستباحة ! و استجابت السلطة لسحر إلحاحها الأسود ، و صدقت شريحة مغرر بها من الرأي الشعبي العام مع وسواس هذه النخبة أن الإقصاء يمكن أن يكون حلا ً ، و أن المطواة ( الباترة ) يمكن أن تكون دواء ، و أن الاستباحة لفصيل بعينه _ أو حتى للجميع بستار هيبة الدولة ! _ هو الطريق الملكي للرفاهية و تبديد الأزمات ! و تراكم حصاد الانتكاسات السياسية و الاقتصادية و الدبلوماسية و تأزمت الأمور _ حد الاختناق _ و هذه النخبة لا تريد أن تغير مسارها ، أو تعترف بخطئها ، أو حتى تغرب _ في صمت _ عن المشهد ليتمكن الشعب _ بإلهامات نخبة جديدة _ من التنفس و الرؤية الصحيحة لطريق الخلاص . ظل ( السيد ياسين ) في الندوة الأولى يتحدث إلى جواري نحوا ً من الساعة و النصف ، مشرقا ً و مغربا ً بين أمريكا و اليابان و الصين و روسيا و بطش الطبقة الرأسمالية في مصر ، و غاب عن حواره الذي استمر مدة ماراثونية كلمة واحدة لم تأت على لسانه ، و لا في ورقته البحثية التي تلاها على مسامعنا ، لم يذكر الرجل كلمة ( الحرية ) و لو مرة واحدة ! ! و في الندوة الثانية التي عقدت بنقابة الصحفيين لمناقشة تحولات ما بعد ثورة 25 يناير ، و كان لي حظ إدارتها ، بحضور نخبة كبيرة من الساسة و الأكاديميين و المبدعين ، مضى ( عبد الحليم قنديل ) إلى جواري متحدثا ً بذات النهج التحريضي ، القائم على شحن النفوس و تعكيرها بقوة نحو ( الآخر ) دون أن يقدم حلولا ً من أي نوع ، اللهم إلا حلا ً وحيدا ً _ يراه حاسما ً ! _ و هو إنشاء حزب سياسي معبر عن الثورة ! منذ متى كان إنشاء حزب معين حلا ً لأزمات هيكلية تتعلق بالحريات و العدالة الاجتماعية ؟! تحدث ( قنديل ) عن استمرار ظاهرة القطط السمان _ رأس المال السياسي الفاجر _ و أن ( الأتوبيس المصري ) _ بتعبيره ! ! _ لم يعد يتسع لرجال مبارك و لا التيار الإسلامي ، الذي طوح به الشعب المصري _ بتعبيره أيضا ً ! ! _ من النافذة ! و مضى قنديل بصوت مجلجل في القاعة مطالبا ً الشعب المصري بأن يلغي فصائل كبيرة من بين أظهره ب ( جرة قلم ) حتى يتعافى ! ! و استطعت أن أقرأ استياء شديدا ً في عيون الحضور من لهجة التحريض ، و التكريس لواقع الاستباحة و الاستغراب من نخبة لم تتعلم من المطارق التي هوت فوق رؤوسنا في السنوات الأخيرة درسا ً واحدا ً ! و امتد حديث قنديل نحو الساعة و النصف و غابت عنه _ كالعادة ! ! _ الكلمة التي باتت النخبة تبغضها لسبب غير مفهوم ، و هي كلمة : ( الحرية ) ! و حاولت في تعقيبي أن أوضح أن الشعب المصري قد يكون في هذه اللحظة باحثا ً عن شيء آخر ، غير الإقصاء أو التطويح بأحد من النافذة _ بتعبير قنديل _ أعني روح المصالحات و الانفراجات الوطنية ، و إعادة رفيف الحرية ، و سقف الدعم الاجتماعي مجددا ً لتوفير وقوده و لقمة خبزه و مسكنه ! مجددا ً تثبت نخبتنا _ بلا رتوش _ أنها صانعة الأزمة الكبيرة للحاكم و المحكوم ، و أن إيمانها بالحرية وهم من الأوهام ، و أن اعتقادها في ضرورة العدالة الاجتماعية و توزيع الثروة بإنصاف مجرد قناع خارجي ، تضعه على وجهها لتخفي ( هتلر ) المختبيء تحت جلدها ، و تخفي معه حالة تعايش آثم مع نموذج الرأسمالي الشره ، الذي يريد أن يبتلع كل شيء ... دون وخز ضمير !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف