الأهرام
احمد السيد النجار
مصر وإيطاليا ومأساة «ريجينى»
قُتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى بصورة مأساوية مروعة وصادمة لأى ضمير إنساني. والشعب الإيطالى يستحق من مصر وشعبها المضياف أحر التعازى فى وفاة ريجينى المؤلمة والمحزنة. وجاء هذا الحادث الأليم فى وقت تمر فيه العلاقات المصرية-الإيطالية بانتعاش حقيقى خاصة فى ظل تقارب أو تطابق المواقف بشأن العديد من القضايا الإقليمية والدولية، فضلا عن التعاون الثنائى الوثيق بين الدولتين. وعلى الصعيد الشعبى أثار هذا الحادث ألما حقيقيا وتعاطفا جارفا فى إيطاليا ومصر مع ذلك الشاب المغدور.

وكان الشاب الفقيد يدرس فى جامعة كمبردج للحصول على درجة الدكتوراة عن الأوضاع الاقتصادية والنقابات المستقلة فى مصر وهى واحدة من التطورات النقابية التى تم الاعتراف بها فى الأعوام الأخيرة لعصر مبارك وتعززت بعد الثورة قبل أن يبدأ الكثير من الجدل بشأنها مؤخرا.

وقبل يومين من العثور على جثمان الشاب الفقيد كانت هناك زيارات إيطالية رسمية وشعبية لمصر. وكان نصيب مؤسسة الأهرام منها زيارتين: الأولى لوفد مشترك من جامعتين إيطاليتين واتحاد العمال الإيطالى لبحث تعزيز التعاون مع مؤسسة الأهرام والكيانات الاقتصادية والتعليمية والسياحية التابعة لها. والثانية كانت زيارة الكاتب الإيطالى الكبير روبرتو باتسى الذى حل ضيفا على بوابة الحضارات بالأهرام فى ندوة شكلت تعبيرا رائعا عن التفاعل الثقافى بين البلدين فى مناقشة أعماله التى تمت ترجمة أحدها مؤخرا وهو رواية «البحث عن الإمبراطور»، والثانى فى طريقه للترجمة أيضا وهو «غرفة على الماء» الذى يحكى قصة هروب قيصرون ابن كليوباترا ويوليوس قيصر.

رسالة «باتسي».. مزيج الألم وعمق العلاقات

بعد الحادث الأليم تلقيت رسالة من الكاتب الإيطالى الكبير تتسم بقدر ساحر من الإنسانية والألم، والحرص فى الوقت نفسه على استمرار العلاقات الجيدة بين مصر وبلاده فى المستقبل بعد الكشف عن الجناة ومحاسبتهم بصورة عادلة. والرسالة تدعو للتأمل فى الحقيقة فهى عبرت عن ألم الشعب الإيطالى لفقدان واحد من أبنائه بطريقة مأساوية فى بلد صديق. والفقيد فوق ذلك باحث علمى وهو أمر يعطى أى إنسان نوعا من الحصانة انطلاقا من تقدير قيمة العلم أو هكذا يظن أهل العلم وينتظرون من الدولة والمجتمع هذا النوع من التقدير والحصانة للحياة والحرية والبحث العلمي. لكن فى نفس الوقت ورغم الألم من الحادث فإن الرسالة تعكس حالة من التسامى على الألم حرصا على كشف الجناة ومحاسبتهم، وعلى استمرار العلاقات الوثيقة بين القاهرة وروما.

وإزاء هذا النبل فى النظر إلى الحادث من أحد رموز الجانب الإيطالى فإن مصر عليها استكمال التحقيق فى الحادث بأقصى درجات المهنية والتجرد والشفافية والاحترام لقيمة وحياة الإنسان.

وتملك مصر وإيطاليا تاريخا طويلا من العلاقات القوية أيا كان نوعها. وعندما ظهرت الدولة الرومانية كانت مصر سحيقة فى القدم وسابقة كدولة بأكثر من ألفى عام عن الدولة الرومانية، وسابقة كحضارة بأكثر من خمسة آلاف عام. وتلك الأسبقية منحت مصر القدرة على إعطاء النموذج وعلى التأثير فى كل شيء على الجانب الآخر من البحر المتوسط. وهناك الكثير من الأساطير الدينية والروايات والأعمال الأدبية عموما والإنجازات الطبية والعلمية المصرية القديمة التى أثرت بصورة عميقة فى التكوين والتطور الحضارى لبلدان شمال البحر المتوسط. ومن الأمور الطريفة أن الإلهة المصرية القديمة «إيست» التى نطلق عليها »إيزيس« ظلت معبودة فى إيطاليا خمسة قرون بعد الميلاد رغم أن عبادتها كانت قد انتهت فى مصر قبل ذلك بمئات السنين بعد تحول المصريين للديانة المسيحية الأرثوذكسية. لكن مصر تلقت بعد ذلك الكثير من التأثيرات من الجانب الآخر من المتوسط فى تفاعل حضارى وثقافى وسياسى ممتد.

أما فى العصر الحديث فقد اتسمت العلاقات بين مصر وإيطاليا بالعمق والحيوية والتواصل الشعبى الذى يتجاوز العلاقات الرسمية بل ويسير عكسها فى بعض الأحيان. وربما تكون هجرة مئات الآلاف من الإيطاليين إلى مصر هربا من إجراءات موسولينى ومن ويلات الحرب العالمية الثانية واحدة من الأحداث التى تعكس عمق العلاقات الشعبية، خاصة أن تلك الهجرة حدثت رغم أن الدولة المصرية التى انضمت للحلفاء كانت تواجه الدولة الإيطالية التى كانت تعتبر القطب الثانى فى دول المحور بعد ألمانيا النازية.

وفى الوقت الراهن هناك درجة عالية من التوافق بشأن القضايا الإقليمية والدولية، فضلا عن العلاقات الثنانية العميقة فى السياسة والاقتصاد وهى أمور تستحق المتابعة رغم أن ما هو جوهرى فى مأساة جوليو ريجينى هو البعد الإنسانى والأمنى الذى يعلو على كل ما عداه.

ويعد الموقف بشأن الوضع فى ليبيا على درجة عالية من التوافق حيث إن الدولتين تتأثران بما يجرى فى ليبيا وتعملان على دعم جهود بناء الدولة الليبية ومنع سقوطها بيد الإرهابيين. ومصر صاحبة مصلحة مباشرة فى استقرار ووحدة الدولة الليبية لضمان سلامة الشعب الليبى الشقيق، ولضمان أمان حدودها الغربية. وإيطاليا يهمها وجود دولة مستقرة فى ليبيا لمنع الهجرات غير القانونية التى تنطلق من سواحلها. لكن التوافق فى المواقف بشأن استقرار الدولة الليبية يستدعى بذل المزيد من الجهود للسماح بتسليح الجيش الليبى وإلغاء القرار الدولى الذى يمنع ذلك، حتى يمكن لذلك الجيش أن يواجه مجموعات الإرهابيين المدججة بالسلاح كآلية لاستعادة وحدة أقاليم الدولة ومنع تحولها إلى منطلق للإرهابيين لتهديد دول جنوب وشمال المتوسط.

العلاقات الاقتصادية المصرية-الإيطالية



تشير البيانات الرسمية إلى أن إيطاليا هى أهم سوق مستقبلة للسلع المصرية. وقد بلغت قيمة الصادرات المصرية لإيطاليا عام 2013 نحو 2675 مليون دولار بما يعادل نحو 9.3% من إجمالى قيمة الصادرات السلعية المصرية فى ذلك العام. وبالمقابل بلغت قيمة الواردات المصرية من إيطاليا نحو 3481 مليون دولار بما شكل نحو 5.4% من إجمالى الواردات السلعية المصرية فى العام المذكور. وتعتبر إيطاليا هى رابع أهم سوق موردة للسلع لمصر بعد الصين وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ويعتبر القرب الجغرافى وما يترتب عليه من انخفاض نفقات النقل والتأمين أحد العوامل المهمة التى تعزز تطور التجارة السلعية بين مصر وإيطاليا.

ولأن استهلاك السلع القادمة من أى دولة هو اختيار شعبى إذا كانت سلعا استهلاكية نهائية، فإن شبكة المصالح التجارية الخارجية لأى دولة تستدعى وجود صورة جيدة للدولة لدى الدول والشعوب الأخري. وصحيح أن اعتبارات الجودة والسعر هى العوامل الأساسية فى الترويج الخارجى لأى سلعة، لكن الصورة العامة عن الدولة تشكل عاملا مساعدا أو معوقا فى هذا الشأن.

وبالنسبة للاستثمارات المباشرة فى مصر فإن إيطاليا تأتى ضمن الدول المتوسطة فى هذا الشأن. ووفقا لبيانات البنك المركزى المصرى فى نشرته الإحصائية الشهرية، بلغت قيمة تدفقات الاستثمارات الإيطالية المباشرة فى مصر نحو 246.5، 193.3، 75.1، 16.8، 37.1 مليون دولار فى الأعوام المالية 2010/2011، 2011/2012، 2012/2013، 2013/2014، 2014/2015 على التوالي. لكن الأعوام التى شهدت قيام الشركات الإيطالية بشراء شركات مصرية مطروحة للخصخصة كانت قيمة الاستثمارات الإيطالية المباشرة فى مصر أعلى كثيرا، حيث تم اعتبار الأمر وكأنه استثمارات إيطالية مباشرة رغم أنه لم يتم إنشاء أصل استثمارى جديد، بل مجرد تدفقات نقدية نتيجة بيع أصل قائم فعليا. والمثال الأبرز على ذلك عام 2006/2007 حيث بلغت قيمة الاستثمارات الإيطالية المباشرة التى تدفقت إلى مصر نحو 1631.4 مليون دولار نتيجة شراء شركة إيطالية إحدى شركات الأسمنت المصرية.

وخلال المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ فى مارس من العام الماضى وقعت شركة إينى الإيطالية اتفاقا مبدئيا لاستثمار 5 مليارات دولار للتنقيب عن الغاز واستخراجه فى المياه المصرية فى البحر المتوسط وفى الصحراء الغربية والدلتا وسيناء. وتم بالفعل اكتشاف أكبر حقل مصرى للغاز فى البحر المتوسط عن طريق الشركة التى تعمل بجدية فى مناطق الامتياز التى خصصت لها. ومن المؤكد أن الاستثمارات المرتبطة بهذا الاكتشاف سوف ترفع كثيرا من حجم الاستثمارات الإيطالية المباشرة فى مصر.

من ناحية أخري، فإن جانبا مهما من التجارة الإيطالية مع العالم غير الأوروبي، وبالتحديد مع آسيا والبلدان العربية الآسيوية وإيران وشرق وجنوب إفريقيا، يمر عبر قناة السويس ويعتبر صادرات خدمية مصرية (خدمات النقل) إلى إيطاليا.

أما العلاقات المهمة الأخرى بين مصر وإيطاليا فتتعلق بالسياحة. وكان السياح الإيطاليون يتصدرون قائمة الجنسيات التى تزور مصر بغرض السياحة، قبل أن يتقدم السياح الروس ليشغلوا هذا الموقع منذ عدة أعوام. لكن السياح الإيطاليين يظلون فى المرتبة الثانية ونادرا ما يتراجعون للمرتبة الثالثة. وهذا النوع من العلاقات الاقتصادية أو صادرات الخدمات السياحية المصرية لإيطاليا يتأثر بشدة بالصورة العامة عن مصر فى ذلك البلد المتوسطي. ورغم أن القرب الجغرافى وانخفاض نفقات الانتقال بين البلدين يساعدان على جعل السياحة منخفضة التكاليف، فإن الصورة الانطباعية تظل مؤثرة بقوة خاصة فيما يتعلق بأمان الإيطاليين الذين يزورون مصر.

وختاما فإن مصر مضارة من جريمة مقتل جوليو ريجينى على جميع الأصعدة. وأهم ما يمكن لمصر أن تقدمه بشأن هذه الجريمة المأساوية هو التحقيق النزيه والتعاون مع الجانب الإيطالى فى هذا الشأن، ومحاسبة الجناة بالقصاص العادل، فهذا حتى وإن لم يمنع ألم الشعب الإيطالى الصديق على جريمة تم تنفيذها بقسوة، فإنه يساعد على بناء الثقة فى أن الدولة المصرية معنية بالفعل بأمان زائريها وسلامتهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف