الأخبار
د.محمد مختار جمعه
حروب الجيل الخامس
التاريخ شاهد، والأيام شاهدة، أن كل انتصار عسكري كان وراءه قائد شجاع، وآخرون مؤمنون بفكره، واثقون فيه، داعمون له، سواء من زملائه الذين يكونون خير سند له، أم من أصحاب الفكر والرأي الذين يعدون خير داعم فكري ومعنوي له.
وفي عصرنا الحاضر تغيرت معطيات كثيرة، وبخاصة في نظم الحرب وأساليبها، فلم تعد الحرب أحادية البعد، أي أنها لم تعد عسكرية محضة، أو أمنية محضة، ولا حتي مخابراتية محضة بالمفهوم التقليدي للنظم المخابراتية القديمة، فقد تطورت أساليب حروب الجيل الرابع، ودخلنا دون أن يشعر كثيرون في ما يمكن أن يطلق عليه حروب الجيل الخامس التي جري ويجري تطبيقها فيما أطلق عليه زورًا وبهتانًا الربيع العربي المشئوم، حتي صارت كلمة الربيع التي توحي بالبهجة وتشيع البسمة علي حد قول البحتري : »أتاك الربيع الطلق يختـــال ضاحكًا.... من الحسن حتــــي كاد أن يتبسما»‬.
توحي بعكس ذلك من الشؤم والخراب والتدمير، وبالطبع لم يكن اختيار مصطلح الربيع العربي عفويًا أو مصادفة، إنما كان مقصودًا لإحداث لون من التعمية أو التعتيم، وتحقيق ضرب من المخادعة، علي شاكلة مصطلحات الفوضي الخلاقة، والفوضي البناءة، بدلا من الفوضي المدمرة، مع أن الفوضي هي الفوضي لا تخلف غير الخراب والدماء.
وطبعًا لم يكن الربيع ربيعًا، لأنه لم يخلف غير الخراب والدمار والدماء، وتجاوزت الحيل والأساليب القذرة المبتكرة لإسقاط منطقتنا وإفشال دولها كل ما يمكن أن يطلق عليه حروب الجيل الرابع، إلي ما يمكن أن نعتبره حالة خاصة صنعت لإنهاك منطقتنا فيما يمكن أن نطلق عليه حروب الجيل الخامس، وهي الحروب الأكثر قذارة في تاريخ الإنسانية، لاستخدامها كل الوسائل غير المشروعة من توظيف الإرهاب وتبني الإرهابيين ودعمهم تحت مسمي حربهم، وتعظيم أمر الخيانات، وشراء الولاءات، ومنهجة استخدام سلاح الشائعات الذي صار فنًا يكاد يدرس بل يُدرس ويتم التدريب عليه من قبل بعض الجهات المشبوهة، وتُوظف له الكتائب الإلكترونية، مع استخدام أقصي وسائل الحصار والضغط السياسي والاقتصادي والنفسي، والمحاولات المستميتة في إثارة الشعوب وتأليبها علي حكامها، وتشويه الرموز والمكتسبات الوطنية، والتشكيك في كل الإنجازات والتهوين من أمرها، وتحالف الجماعات والقوي الإرهابية، ومحاولات اختراق المؤسسات، وإثارة أي نعرات تؤدي إلي الفرقة بآلية ممنهجة وغير مسبوقة، والتوظيف غير المسبوق للمعلومة، وتجنيد بعض وسائل التواصل الحديثة بل الكثير منها، واللعب علي وتر الحاجة والمصالح الآنية التي لا يحتمل بعضها الصبر عليه، ومحاولة كسر إرادة الشعوب، والعمل علي كسر هيبة الحكام، والتشكيك في العلماء والمفكرين والمثقفين الوطنيين، ودعم مناوئيهم، وتوجيه رسائل التهديد المبطنة تارة والصريحة أخري للمتمسكين بمبادئهم المخلصين لأوطانهم، بإبراز مصائر من لم يسر في الركب وينضم للمخطط الآثم، ويرفع راية التسليم ويركع ويُركّع من خلفه، مما جعل قضية الصمود في وجه كل هذه الموجات العاتية أمرًا استثنائيًا يحتاج إلي عقيدة إيمانية ووطنية فولاذية، وثقة في الله غير محدودة.
ولم يعد من الوطنية ولا الحكمة ولا الشعور بالمسئولية ولا حتي المصلحة الوطنية أو العامة ولا حتي المصلحة الشخصية أن يُترك القادة العسكريون والأمنيون وحدهم في ميدان هذه الحرب التي لم تعد تقليدية تعتمد علي شجاعة المقاتل وحدها، بل صار واجبًا حتميًا شرعيًا ووطنيًا أن ندعم قياداتنا السياسية وقواتنا المسلحة الباسلة وشرطتنا بكل ما نملك من وسائل الدعم مع تأكيدنا علي مشروعية الدولة الوطنية في مقابل ما تسوقه الجماعات العميلة الخائنة التي تتاجر بدين الله (عز وجل) من عدم الاعتداد بحدود الدول ولا استقلالها، وتراها حدودًا وهمية لا قيمة لها، بل تري أوطانها حفنة من التراب لا قيمة لها، وهو ما لا يخدم إلا مصلحة أعدائنا المتربصين بنا الذين يعملون علي زعزعة الانتماءات الوطنية والقومية.. في حين أننا نؤكد أن الأمر علي العكس تمامًا، فكل ما يدعم صمود الدولة الوطنية ويدعم بناءها ويعزز مكانتها هو من صلب الدين، وكل ما يهدد كيانها وينال من وجودها أو يسعي في أطرافها فسادًا أو إفسادًا إنما يتنافي مع كل مبادئ الدين والقيم والوطنية ، ويعد خيانة للدين والوطن، وعمالة لأعدائهما المتربصين بنا.
علي أن المسئولية الأكبر إنما تقع علي عاتق علماء الدين والمثقفين والإعلاميين والكتاب، لما لكل هؤلاء من أثر بالغ في صناعة الوعي، ومواجهة التحديات، وتفنيد الشائعات ، وإبراز الحقائق، وكشف حجم المؤامرات، وهو ما يعيه ويتبناه كثير من كتابنا ومثقفينا وإعلاميينا الوطنيين جيدًا، ويعملون علي التوعية به ما وسعهم السبيل، غير أننا في حاجة إلي تحويل هذه الظواهر الإيجابية إلي حالة وعي عام واستنارة عامة وتوعية شاملة أو قل تعبئة فكرية عامة، تتوازن وحجم ما يحاك لأوطاننا من مؤامرات لم تعد خفية علي لبيب ولا غير لبيب.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف