الوطن
ياسر عبد العزيز
الالتزام بحقوق الإنسان يقوى الدولة
عندما وقعت أحداث العنف فى بريطانيا فى العام 2011، تحدث رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون عن خطط حكومته للسيطرة على الشغب والانفلات وإعادة الهدوء وفرض الاستقرار، ومما قاله فى هذا الصدد إنه «سيفعل كل ما يجب لكى يضمن تمتع قوات الشرطة بالصلاحيات اللازمة للقيام بعملها».

كانت بلادنا فى هذه الأثناء تعيش فورة الانتفاضات والتظاهرات والاحتجاجات وأعمال الشغب، وفى ظل مثل تلك الفورة ظهر كثيرون ممن رأوا ضرورة أن تفرض الحكومة الاستقرار مهما كانت الذرائع والدعاوى، ومنها بالطبع تلك الدعاوى المتعلقة بحقوق الإنسان.

وفجأة امتلأت الصحف والشاشات والمواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعى بحديث عن كاميرون وما قاله فى شأن أعمال العنف فى بلاده، لكن لسبب بات معروفاً لاحقاً، تم تغيير أقواله، لتصبح على هذا النحو: «عندما تصل الأمور إلى الأمن القومى لا تسألنى عن حقوق الإنسان»، وهى العبارة التى ثبت أنه لم يقلها أبداً، خصوصاً بعدما وزعت السفارة البريطانية فى القاهرة نص كلمته الأصلية، لتثبت أنه لم يتورط فى إهدار التزام بلاده بمبادئ حقوق الإنسان.

شىء مثل هذا تكرر مجدداً عندما وقع هجوم إرهابى فى لندن خلال الصيف الماضى؛ إذ قالت رئيسة الوزراء تريزا ماى، معلقة على الأحداث: «سنغير قوانين حقوق الإنسان إذا كانت تعترض طريق التعامل مع المشتبه فى كونهم إرهابيين، وسنسهل عملية ترحيل الإرهابيين الأجانب المشتبه بهم، وسنقيد حرية أولئك الذين يشكلون تهديداً، وسنحد من حركتهم».

لكن للأسباب المغرضة ذاتها، تم تحريف تصريحات «ماى» لتصبح على هذا النحو: «سأمزق قوانين حقوق الإنسان إذا كانت تحول دون مواجهة الإرهاب».

تعكس تلك التحريفات المتعمدة لتصريحات المسئولين الغربيين فى شأن حقوق الإنسان رغبة عميقة فى الانقضاض عليها والاستهانة بها وتقويضها تماماً، لكى يتم فتح المجال أمام السلطة التنفيذية لمقاربة الوقائع الأمنية من دون أى التزام بحقوق الإنسان والمعايير المستقرة فى هذا الصدد، وهو أمر يطرح مخاطر كبيرة.

يريد قطاع من السياسيين والإعلاميين والجمهور فى بلادنا التحلل تماماً من أى التزام حقوقى، وإتاحة الفرص كلها للسلطات المعنية للتصرف من دون أى حد أو قيد يفرضه القانون والدستور والمواثيق والعهود الدولية التى وقعت عليها مصر والتزمت بها فى هذا الصدد. ويتذرع هؤلاء بأن الدول الغربية نفسها «لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بأمنها القومى»، أو بأنها تكيل بمكيالين «عندما يتعلق الأمر بإسرائيل»، أو أنها «تستخدم دعاوى حقوق الإنسان لكى تبتز الأنظمة الوطنية وتضغط عليها».

سيمكن إيجاد العديد من الأمثلة التى تثبت أن بعض الدول الغربية الكبرى تغير منظوماتها القانونية، وقواعد تعاطيها مع المشتبه بهم فى العمليات الإرهابية، عندما يتعلق الأمر بأمنها القومى.

يكفى أن نذكر فى هذا الصدد ما حدث فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر، إذ تم إقرار القانون 56 للكونجرس رقم 107، والذى نعرفه باسم «باتريوت أكت» USA Patriot Act، فى ستة أسابيع فقط، ولمن لا يعرف، فقد أشير أيضاً إلى هذا القانون اختصاراً باسم «حب الوطن»، وأصبح نافذاً بعد توقيع الرئيس بوش عليه فى 26 أكتوبر 2001.

إذا قرأ أى من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، أو واضعى دستورها وتعديلاته، نصوص هذا القانون، لأصيب بصدمة كبيرة؛ إذ تم تقويض الكثير من الحريات والحقوق التى تعهدت البنية التشريعية الأمريكية بصيانتها، والتى روجت لها واشنطن فى العالم أجمع باعتبارها «قيم العالم الحر».

فقد عرّف القانون الإرهاب «بشكل فضفاض»، و«أطلق أيدى ممثلى السلطة التنفيذية دون محاسبة»، و«لم يخضع لمراجعة كافية»، و«تم تمريره فى البرلمان دون أن يدرسه أعضاء كثيرون»، و«منح بعض السلطات صلاحيات القيام بعمليات تجسس ومراقبة من دون إذن قضائى».

لم تصمد المعارضة التى نشطت ضد هذا القانون، بل انهارت تماماً أمام حجم الخطر الإرهابى، وتصاعد المخاوف، والرغبة فى تفادى المساءلة فى حال التراخى فى مقاومة الإرهاب؛ وهو الأمر الذى عزز المناخ المناسب لصدور قوانين استثنائية أخرى فى البلاد مثل قانون «زيادة الأمن الداخلى»، والذى عُرف أيضاً بـ«باتريوت أكت 2».

لقد هدف هذا القانون تحديداً إلى «إضعاف أو محو الرقابة على تصرفات الحكومة فى ما يتعلق بمراقبة أو اعتقال المشتبه فى ضلوعهم فى عمليات إرهابية»، بحسب ما قال المنتقدون وبعض منظمات المجتمع المدنى.

لم تتوقف سلسلة التشريعات الأمريكية «المناهضة للإرهاب»، بل توالى صدور قوانين أخرى فى الاتجاه نفسه، وقد تناسب ذلك طردياً مع حالة التهديدات، لكن الأكيد فى هذا الصدد أنه تم توفير الأساس القانونى، والتفهم الداخلى والخارجى اللازم، لكل توسع أو اختراق فى مجال مواجهة الإرهاب بشكل يتقاطع مع الحقوق الأساسية للمواطنين.

لم يكن بوسع الولايات المتحدة أن تقوم بإجراء تلك التغييرات الحادة والمتسارعة على بنيتها القانونية المتقاطعة مع حقوق الإنسان من دون براهين قوية على جدية الاستهدافات الإرهابية وخطورتها، ومن دون عملية تسويق إعلامى للسياسات الجديدة، وبناء تفاهمات واسعة داخلياً وخارجياً، والتزام واضح بتوفير الغطاء القانونى اللازم لكل تحرك.

لا يمكن لدول مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أن تقف مكتوفة الأيدى أمام استهداف إرهابى خطير لأمنها، لكنها حين تجور على هوامش حقوق الإنسان بها تفعل ذلك بتحسب شديد، وبشكل يتناسب مع مناعتها الدولية، ومكانتها، وكتلتها الحيوية، وقدرتها على الدفاع عن سياساتها.

لم يحدث أن أنكرت إحدى دول «العالم الحر» علناً التزاماتها الحقوقية الأساسية، أو أعلنت أنها لم تعد تلتزم بالمعايير الأساسية لحقوق الإنسان، أو تنصلت من تصديقها على العهود الدولية المعتبرة فى هذا الصدد، أو فرضت الحماية العلنية على أى انتهاك لحق أساسى من حقوق الإنسان.

خلال الشهر الماضى، أعلنت الولايات المتحدة تجميد جزء من المعونة التى تمنحها سنوياً لمصر، بداعى عدم وفاء مصر ببعض الالتزامات فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.

نقاد كثيرون يؤكدون استخدام الولايات المتحدة الدعاوى الحقوقية سياسياً من أجل تحقيق مصالحها، كما أننا نعرف جميعاً أن واشنطن تستخدم المكاييل المتعددة فى هذا المجال مع عديد من الدول، إضافة إلى أن ثمة ما يشير إلى صراع أجنحة أمريكى بخصوص طريقة التعاطى مع مصر بين الرئاسة والخارجية ووزارة الدفاع، لكن كل هذا لا يعنى أبداً التحلل من الالتزامات الحقوقية، والضرب بمعايير حقوق الإنسان عرض الحائط، واعتبار أن الارتكاز الحقوقى مُغرض وغير أخلاقى.

مصر لديها الكثير من المشكلات فى تعاطيها مع ملف حقوق الإنسان، ومعظم هذه المشكلات يمكن حلها عبر اتخاذ إجراءات لا تمس الأمن القومى، وتعكس التزاماً حقوقياً، وهذا الأمر يجب أن يحدث بصرف النظر عن الضغوط التى نتعرض لها من الحلفاء أو الأعداء، لأن الالتزام الحقوقى المصرى يقوى الدولة ويعزز قدرتها على المواجهة فى الداخل والخارج.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف