الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل فى تناول مفهوم الحِسْبة
اعتنى المسلمون بنظام الحسبة باعتباره أبرز تطبيقات مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» من أجل إحياء الفضائل لدى أفراد المجتمع وصيانة الحقوق المجتمعية وتنظيم الشئون العامة والمحافظة على الهوية وحماية المقاصد والمصالح العليا؛ عملا بالخيرية والمنة الربانية في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[آل عمران: 110].

وتطلق الحسبة في الاصطلاح على الأمر قولا وفعلا بالمعروف إذا ظهر تركه أو النهي قولا وفعلا عن المنكر إذا ظهر فعله، باعتبار المعروف والمنكر شِقَّيِ الحكم في كل حكم تشريعي وكل قاعدة قانونية أيضًا، وفيهما جوهر العدل ومظاهر الخيرية والأفضلية. ولا ريب أن الحسبة تُعَدُّ من الولايات والوظائف العامة التي هي من قبيل فروض الكفايات الشرعيَّة كما عند الجمهور، وهي نظام محكم له آدابه وشروطه وقواعده، ولم تغب عن عمل المسلمين وواقعهم عبر تاريخهم وفق خطة منظمة تراعي مراتب التغيير في المجتمع والإنسان، وهي تبدأ بالتعليم والتذكير، ثم الوعظ والتنبيه، ثم الزجر والتأنيب والشدة في التهديد، ثم الإزالة بالقوة أو إيقاع العقوبة في حدود اختصاص المحاسب المولى من قبل الدولة وقد فصلنا القول في رسالتنا للدكتوراه. وفضلا عن كل ما تقدم فإن الحسبة كنظام تضمن تحقيق الانسجام والتناغم بين مقتضيات كل مرتبة من المراتب السابقة وبين اختصاصات كل مؤسسة في الدولة.

ورغم وضوح هذا الأصل وانضباط شروطه في النظرية والتطبيق فقد تسلل من خلاله أهل التطرف والتشدد منطلقين في إيهام العامة بأنهم أهل «الجهاد» وأصحاب «الهوية» والمدافعين عن الأمة والقضية، تالين عليهم بعض الأدلة ومقتطفات من النصوص لتثبيت مرتكزاتهم وشحذ الهمم ونشر أفكارهم ومواقفهم على أوسع نطاق ممكن، فضلا عن استخدامه في الأمور الكيدية التي تحصل بين الأفراد أو الطوائف.

نعم إن المتشددين اختزلوا هذا المفهوم وأحدثوا فيه اختلالا كبيرا في الفهم والتطبيق دون مراعاة لحقائقه ولا اعتبارٍ لواقع المسلمين حتى يحققوا أهدافهم التي تكشف عن خبث التفكير وانحراف التخطيط وضلال المنهج والطريق، حيث التخلص من الخصوم سواء بالتصفية الجسدية أو بالاغتيال المعنوي وتصنيف الخلق بأن هذا «صاحب بدعة»، وهذا «مرتد خارج عن الدين» وذاك «صاحب انحراف»، وكل ذلك من المنكر الذي يقطع به الإسلام وأهله، ومن ثَمَّ ظهرت عليهم علامات قول الله تعالى: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)[الكهف: 104]. لقد جرى العمل على تنظيم «الحسبة» فيما يخص جانب الاتهام العام والدعاوى العمومية كمسائل الرأي وحقوق المجتمع والأحوال الشخصية خاصة التي كان حق الله تعالى فيها غالبًا، كدعوى إثبات الطلاق البائن، أو طلب التفريق بين زوجين -وفق مذهب الجمهور الذي يقصر تحريك الدعاوي القضائية في مثل ذلك على من انتدبه الحاكم وعهد إليه بالنظر في أحوال الناس والتفتيش في أمورهم ومتابعة مصالحهم، وهي في عصرنا «النيابة العامة» بوصف اختصاصها الذي يقتضي الدفاع عن حقوق المجتمع والدولة، وكونها صاحبة الحق في توجيه الاتهام إلى كل خارج عن القانون .

وبذلك فالحسبة نظام محكم اختزله أهل التطرف والتشدد لتحقيق أهدافهم الخبيثة وأعمالهم الإجرامية، في حين اتخذت اتجاهات أخرى مضادة لنبذ الإسلام وتنحيته جزئيًّا أو مطلقًا، ودعم صعود ظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي تخيف الناس في الداخل والخارج، رغم أنه يحمل معاني سامية ومقاصد عليّا ترقى بالمجتمع وتحترم حرية الفرد ووجوده، مع ردع المفسدين والمحافظة على كيان المجتمع وهويته وإقامة الحقوق والمصالح العامة، تيسيرا للتساند والتكامل، وتوفيرًا للمصالح وإظهارا للوحدة والاتحاد؛ امتثالًا لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)[المائدة: 2].

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف