الأهرام
مصطفى السعيد
الحاكمية لله أم للشعب؟
تكمن فوة الخطاب التكفيرى فى بساطته واعتماده على البديهيات والمسلمات، وإن كانت تتحول على أرض الواقع إلى خرافات وانحرافات، فالداعية التكفيرى يبدأ بالدعوة إلى الحاكمية لله، فهل هناك من يرفض حكم الله؟ بالطبع لا، ويزأر بصوته: أليس الله هو العادل .. الحكيم .. القادر .. المعز .. المذل .. الرحمن؟ هل تفضلون حكم الإنسان المخلوق والضعيف وصاحب الهوى عن حكم الله المنزه؟ بالطبع لا .. إذن فلا نحتاج إلى دستور، لأن القرآن دستورنا، ولا نحتاج إلى برلمان ينازع الله فى التشريع، هل تريدون الشرك بالله؟ طبعا لا، هل يمكن لأغلبية كافرة ومنحرفة أن يعلو رأيها على كلمة الله؟ طبعا لا، إذن فالحكم بالديمقراطية حرام، لأنه يمنح الإنسان الحق فى تغليب رأيه على حكم الله.

هكذا يتم إلغاء ومصادرة العقل والتفكير والإرادة الإنسانية باسم الحاكمية لله، لكن من سيكون له الحق والإنابة عن الله فى حكمه، ويفسر القرآن أو يجتهد فى المستجدات، ويقول إن هذا يتفق أو يتعارض مع أحكام الله؟ ومن قال إن عقل الإنسان ليس جديرا بالحكم مادام أن الناس عرفوا الله بالعقل، وآمنوا به عن قناعة؟.

علينا العودة إلى تاريخ رفع شعار الحاكمية لله لنعرف من ومتى ولماذا تم طرحه، وإلى أين أدي؟ حتى يمكننا فهم المعزى من هذا الشعار الذى تتبناه وتطرحه جميع الجماعات المتطرفة.

لا يوجد تفسير واحد للقرآن الكريم، فالتفاسير كثيرة، وتتغير وتتبدل وتختلف، وكل حسب اجتهاده وقدراته وعصره وميوله، وهذا يعنى وجود تباينات وتعددية فى التفسير والفهم، فهل تتعدد الحاكمية لله بتعدد التفاسير؟ بالطبع لا، وهنا بيت القصيد، فمن يتولى التفسير هو الذى يريد أن تكون له الحاكمية.

لقد اختلف الصحابة حول اختيار خليفة المسلمين، ولو كان القرآن الكريم يحدد سبل اختيار الحاكم لما اختلف الصحابة، ولما وقعت الفتنة الكبرى التى اقتتل فيها الصحابة، وكان جيش معاوية بن أبى سفيان أول من رفع المصاحف على أسنة الرماح فى معركة صفين، عندما شعر بالهزيمة أمام جيش الإمام علي، وكان الهدف سياسيا، ولو كان جيشه يحقق النصر لما رفع المصاحف، وقد اختلف أنصار الإمام على بن أبى طالب تجاه رفع المصاحف، والاحتكام إليها، فانشقت صفوف جيشه بين من يوافق على الاحتكام للمصحف ومن يراها خدعة، وانتهى التحكيم بتوسيع شقة الخلاف، بالقصة المعروفة بين عمرو بن العاص ممثل جيش معاوية وأبى موسى الأشعرى ممثل جيش الإمام علي.

وتكرراستخدام عنوان الحاكمية لله لتبرير التفرد بالسلطة، وعدم المسئولية أمام الرعية، وتناوبوا الحكم بالوراثة وكأن هذا يجرى وفق إرادة الله، فلا أحد يسألهم عن كيفية صرف المال ولا إدارة شئون الدولة، وحتى مفهوم الشورى غير واضح المعالم، فهل الشورى ملزمة أم لا، وممن تتكون ومن يختارها وما هى صلاحياتها؟ لا إجابات محددة. وجاءت جماعة الإخوان المسلمين لتعيد طرح شعار القرآن دستورنا فى محاولة لمصادرة الإسلام لمصلحتها، وكأنها الممثل الشرعى والوحيد للإسلام، لكن جماعات أخرى تناسلت منها أو نافستها على مبدأ الحاكمية لله، والقرآن دستورنا وقرنته بمفهوم الجهاد باعتباره أقصر الطرق للوصول إلى الجنة، والفريضة الغائبة التى لا يكتمل الإسلام إلا بها.

لكن تلك الجماعات تراجعت عن أقوالها بتكفير الديمقراطية والتشريع عن طريق البرلمان، وشاركت فى الانتخابات ووضع الدستور، وهو ما يؤكد أن رفضها لهذه المؤسسات له طابع سياسي، ويستخدمون الإسلام لتحريمه حينا وإباحته حينا آخر.

وعندما نستعرض الدول التى مارست فيها تلك الجماعات فريضة الجهاد نجد أنها جميعا جرت برعاية أمريكية ومن أجل مصالحها، فتنظيم القاعدة ذهب إلى الجهاد لمحاربة الاتحاد السوفيتي، العدو الأول للولايات المتحدة، ثم ذهبوا إلى البوسنة والهرسك لتفتيت يوغوسلافيا، وبمشاركة الضربات الجوية لحلف الناتو، وأخيرا فى العراق وسوريا وليبيا، لتنفيذ المخطط الأمريكى للفوضى الخلاقة، ورأينا الرئيس السابق الإخوانى محمد مرسى يدعو إلى إرسال الشباب للحرب فى سوريا، بينما كان يصف الرئيس الإسرائيلى السابق شيمون بيريز بالصديق، ولم ترسل هذه الجماعات مجاهديها لمحاربة دول ليس للولايات المتحدة مصلحة فى محاربتها، مثل بورما التى يتعرض فيها مسلمو إقليم أراكان لإبادة جماعية، وصنفتهم الأمم المتحدة من أكثر السكان تعرضا للاضطهاد فى العالم.

هذه الانتقائية فى استخدام الشعارات الدينية لم تكن إلا سبيلا لتحقيق غايات سياسية، ورأينا كيف أن المجاهدين قد انقسموا واقتتلوا فى أفغانستان، بعد السيطرة على أراضيها، مع أن كل جماعة ترفع شعار الحاكمية لله، وأن القرآن هو دستورها، وها هى الجماعات المسلحة فى سوريا تقاتل بعضها بعضا، وتتهم كل جماعة غيرها من الجماعات بأنها باغية، وأنها الفرقة الناجية، وتمارس كل أنواع الجرائم، بما فيها إجبار الأطفال على ارتداء أحزمة ناسفة، وتفجيرهم، ووضع النساء والأطفال دروعا بشرية.

أهم أزمة تواجه الجماعات السلفية أنها تريد نفى الحاضر وإنكاره، سواء بالتكفير أو التدمير، لعجزها عن فهمه والتعامل مع إنجازاته أو مشكلاته، وتذهب إلى محاولة مستحيلة لاستنساخ ماض لا يمكن استعادته، بعد تجميله بحذف المآسى التى حدثت فيه، وإعادة طلائه ليبدو أقل قتامة، فلا تجد سبيلا إلا التبشير بالجنة بعد موت تتعجله بما تسميه الجهاد، فترتكب الكثير من البشاعات، وتنشر الخراب والدمار والفتن وسفك الدماء، لأنها لا تملك مشروعا للحياة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف