الأهرام
طه عبد العليم
الزراعة المصرية من الريادة للمأزق
لم يتراجع تصنيع مصر فقط كما بينت فى عديد من مقالاتى، وإنما تدهورت الزراعة، وهو درس تؤكده التقارير والدراسات الاقتصادية الدولية المقارنة، ويتلخص فى حقيقة أن الفالح فالح فى كله والخائب خائب فى كله؛ ببساطة لأن عوامل النجاح أو الإخفاق واحدة. وفى موضوع المقال أوجز فأقول إن مصر قد تحولت من مثال عالمى لتوفير الغذاء لسكانها فى مواجهة تحدى عصر الجفاف بترويض نهر النيل الجامح وثورة رى الحياض فى تاريخها القديم الى بلد تآكلت فيه الأرض المزروعة ويعانى المجاعات حتى تآكل سكانها مع طغيان البرارى ونضبت سلة غذاء روما حين أهدر حكامها كفاءة إدارة الزراعة المروية وعدالة توزيع الموارد الزراعية فى تاريخها الوسيط.

وفى تاريخ مصر الحديث كانت النهضة الزراعية وثورة الرى الدائم دخول عصر القطن والزيادة السكانية وتضاعف إنتاج القمح وتصديره لأوروبا فى عهد محمد على. ورغم بناء السد العالى أكبر مشروعات البنية الأساسية للرى والزراعة قبل الكهرباء والصناعة فى عهد عبد الناصر، تحولت مصر الى أكبر مستورد للغذاء فى العالم بعد وأد مشروع التصنيع تحت راية الصراخ بأن مصر بلد زراعى. وقد بدأ تدهور إنتاج الغذاء منذ عمل الاحتلال البريطانى على تحويل مصر الى مزرعة للقطن لمصانع النسيج الانجليزية. ورغم الاصلاح الزراعى، الذى استهدف ليس فقط تقويض الاقطاع وانهاء احتكار القلة للثروة القومية وانما أيضا تحويل مدخرات الأمة للاستثمار الصناعى والانتاجى، ورغم مشروعات التصنيع والتنمية الشاملة الكبرى وفى قلبها السد العالى، فقد تآكلت ثمار الاستثمار والتنمية مع الانفجار السكانى ومأزق اقتصاد الأوامر. وبعد نهضة مهمة للبحوث الزراعية أسهمت فى رفع انتاجية الفدان من المحاصيل الغذائية وغيرها، اهدرت فرص تعميق النجاح بسبب تراجع التصنيع، وعادت المضاربة العقارية على أراضى البناء لتصبح مجددا بالوعة بلا قرار تبتلع ثروة الأمة المتاحة للاستثمار، وبأسوأ مما فعلت المضاربة على الأرض الزراعية قبل الاصلاح الزراعى.

ولا يمكن تجاهل الآثار السلبية لسياسات التجميع الزراعى والتسعير الاجبارى وتسويق الدولة للمحاصيل، وخاصة بتحويلها للفائض المتاح للاستثمار الزراعى لتمويل موازنة الدولة والاستثمار الصناعى العام. بيد أن هذه الآثار تفاقمت جراء تفتت الحيازات الزراعية بسبب التوريث، وتبوير الأرض المزروعة لصالح البناء السكنى، وخاصة مع تراجع توفير فرص العمل والسكنى فى صحراء مصر الشاسعة عبر التصنيع. وزاد الطين بلة تفاقم الفقر المائى فى مصر، الذى وضع قيدا موضوعيا على فرص التنمية الزراعية الأفقية، مع الانفجار السكانى، والعجز عن ترشيد استخدامات المياه جراء تراخى تنفيذ مشرعات تطوير الرى والصرف، وعدم تطوير التركيب المحصولى للزراعة بما يستجيب لتحديات الفقر المائى واحتياجات الأمن الغذائى، وتعاظم الاستخدامات غير الزراعية للمياه العذبة.

وأكتفى هنا بايجاز ثلاث حقائق.

الحقيقة الأولى: أن المصريين كانوا أقدم مجتمع على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاءً ثابتاً من نبات وحيوان، وطوع المعادن، واخترع أقدم نظام للكتابة، فامتلكوا كل الأسس اللازمة لصنع الحضارة. وقد اندمج المصريون فى أول أمة موحدة تحت حكومة مركزية قوية، تُعَدُ أقدم نظام إنسانى معروف يضم عدة ملايين من البشر، وبدأوا تطويرا هائلا فى نظام الحكم والاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب، فى مرحلة فريدة من حياة الإنسان، لم يكن لها مثيل فى العالم القديم. والذى يعرف قصة تحول صيادى ما قبل التاريخ من المصريين- إلى زراع وصناع ومهندسين وملوك ورجال سياسة وحكماء فى جماعة منظمة عظيمة، مشيدين العجائب على ضفاف نيل مصر- يعرف قصة أول ظهور للحضارة وأول بزوغ للضمير على وجه الأرض، كما سجل جيمس هنرى بريستد فى فجر الضمير.

والحقيقة الثانية: أن نشأة البرارى نتيجة لأعمال أو إهمال الإنسان دون نفى دور الطبيعة كانت بمنزلة حكم بالإعدام على البيئة الطبيعية سلب مصر ربع قاعدتها الأرضية والحيوية تقريباً. فقد أخرجت البرارى نحو 1.5 مليون فدان من الزراعة، أى نحو 40% من أخصب الأراضى السوداء فى الدلتا، أى أن 23%، أو نحو ربع الأرض المزروعة، ارتد إلى نطاق المستنقعات البرية الذى كأنه فى عصور ما قبل التاريخ، وانتقل من دائرة المعمور والعمار إلى دائرة اللا معمور والخراب، وتحول إلى إقليم مفقود أو الربع الخالى المصرى؛ وبالنسبة نفسها تقلصت قاعدة مصر المادية وإمكاناتها الاقتصادية والسكانية. ويبدو أن ظهور البرارى كإقليم ترحل وأعشاب جاء توقيته ملائماً للقبائل العربية التى دخلت مصر بعد الفتح، حيث قدم لها بيئة انتقالية مناسبة من بداوتها الصحراوية إلى استقرار مصر الزراعية، كا سجل جمال حمدان فى شخصية مصر.

والحقيقة الثالثة: أن الأمن الغذائى المصرى يواجه تحديات الاعتماد على الخارج فى توفير العديد من السلع الغذائية الاستراتيجية، وهو ما يضع مصر تحت ضغوط قوى خارجية لم ولن تتورع عن استخدام الغذاء كسلاح بغية إخضاع ارادة مصر. وتكفى الإشارة إلى أنه فى عام 2013- ووفقا لدراسة علمية رصينة عن الآثار الاقتصادية لسد النهضة على المياه والزراعة وأمن مصر القومى أصدرها معهد جامعة الفيوم للبحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل، وشاركت فيها نخبة من أبرز علماء مصر بينهما الدكتور محمود أبو زيد والدكتور سعد نصار- فإن نسبة الاكتفاء الذاتى من القمح تقل عن 57 % حتى صارت مصر المستورد الأول للقمح فى العالم، وكانت ذات النسبة للذرة الشامية، ولم تتعد نسبة الاكتفاء الذاتى من الزيوت النباتية نحو 20 %، وبينما تدنت النسبة للفول الى أقل من 28 %، كانت للعدس أقل من 1 %.

ويتفاقم تهديد الأمن المائى، ومن ثم الأمن الغذائى، بعد سد النهضة، الذى لا يستهدف مجرد توفير الطاقة تلبية لاحتياجات إثيوبيا التنموية، وإنما صمم بحجم ومع مشروعات مكملة تهدد حصة مصر من مياه النيل، وحق المصريين فى الحياة. وهو ما يستحق تناولا لاحقا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف