التحرير
سامح عيد
أنسنة التدين
هل هناك تعارض بين الإنسانية والدين؟ هل هناك فرق بين الدين والتدين؟ أمور كثيرة جرت في النهر منذ النبوة وحتى اليوم أكثر من 14 قرنا مرت، سلطة وسياسة ورغبات دنيوية جامحة، وللسلطة قوة ونفوذ، وللمال تأثير، وصانعو التدين هم بشر. ومنذ أن رفعت المصاحف على أسنة الرماح في موقعة صفين وجاءت بمفعول ناجع، ولم يستطع على النقي الطاهر المثالي أن يصنع دولة مستقرة، ولكن معاوية المناور والسياسي فعلها وورثَّها، ومن لحظتها وظهرت للدين قوة مؤثرة، ما كان للسلطة السياسية أن تتركها، ومن لم ينصع للسلطة السياسية، انسحق، ورأينا كيف اصطدم الأئمة الأربعة كلهم بالخلفاء والأمراء. وكان أن تحولت قبلة العلم فجأة من العرب إلى الفرس، فجاء البخاري ومسلم والطبري وابن إسحاق وغيرهم ليكونوا تحت أعين السلطة السياسية، ولا يناكفوا كما كان يناكف العرب استنادا إلى قبليتهم وتعصب القبائل لهم، وهي قادرة على نسخ هذا الكتاب مئات المرات، وترك هذا بلا رعاية فينتهي للأبد. وبذلك صُنع دين جديد، سماه عبد الجواد ياسين التدين الذي يصنعه الاجتماع، يقصد المجتمع والبشر، وسرنا على نحته لهذا اللفظ. الدين الأساسي هو الأخلاق الكلية من العدل والإحسان والمروءة والشجاعة والتسامح واللين والتصدق على الناس والرفق بهم، والعبادات لتزكية النفوس من صلاة وصيام، وهي علاقة بين الإنسان وربه، لا وصاية لأحد عليه فيها. ولكن السلطة السياسية لم تكتف بهذا، هي تريد تدينًا يخدم سلطتها السياسية، تريد مقاتلين بلا أجر وبمستوي فداء عالٍ، فشرعنت قتال الآخرين وغزوهم وصنعت منه دينًا، وتماهي الفقهاء معهم وأطلقوا عليه جهاد الطلب، وهو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، وخالفوا أوامر النبوة بعدم التعرض للنساء والغلمان والعجائز والمصلين في المعابد والكنائس، ولكنهم أخذوا النساء سبايا والغلمان عبيدًا وقتلوا الرجال. من الخطر تحميل كل هذا التاريخ للدين، فهو عبء ثقيل، بما فيه من سلطة سياسية وساسة وبما حواه من علماء وكتبة، سجلوا ونظَّروا، وهو منتج بشري مهم لا نستطيع تجاهله، ولكن لا يمكن تقديسه، فهو مجال للبحث والدراسة والتحليل، وليس مجالا للتقديس.
فلو لم نفتح التاريخ على مصراعيه للدراسة والبحث والتحليل، واعتبرناه كله مقدسًا، من منطلقات تعظيمية، ونظام إنت مين يا فسل عشان تتكلم على الشافعي وابن حنبل، ولو لم يتخلص الغرب من هذا التقديس من كل ما هو قديم، وفسَّلنا الأجيال الجديدة لما ظهر آينشتين ونيوتن وزويل وغيرهم، وكذلك هيجل وفولتير وغيرهم الذين أسهموا في صناعة الحضارة الحديثة، ولو تم تفسيلهم لكانوا في نفس المستنقع الذي لم نخرج منه بعد. نعلم الطفل النقد والتحليل، فأنت لست فسلًا، أنت إنسان وهم بشر، أو هم رجال ونحن رجال، كما يقول الفقه، يحق لنا أن نختلف معهم، وأن نشتبك مع مقولاتهم وأفكارهم وننتقدها، نقبل منها ونرفض، وبهذا نخلق العقلية النقدية. هل اصطدم التدين مع الإنسانية، بالتأكيد خاصة مع الإنسانية الحديثة، التي تدعو إلى الحرية الفردية والتي تدعو إلى التسامح، والتي لا تدعو إلى غزو الآخرين لتغيير معتقداتهم أو فرض غرامات مالية عليهم، أو أخذ السبايا والإماء والعبيد بعد الحروب، فأصبحت هناك مواثيق لحقوق الإنسان وحقوق للأسرى، وإبعاد للمدنيين عن الصراع. كل هذا جعله التدين دينًا ولم يجعله بشريا يجب التمرد عليه وتغييره والتماهي مع الحضارة الحديثة فيما هو إنساني على الأقل. وأن نجعل أخوة الإنسانية فوق أخوة الاعتقاد، نطوِّع الأخيرة لخدمة الأولى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا نستطيع أن نقول إن من بدل دينه فاقتلوه، وإن هذا دين، أو المروية التي تقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". هذا كله غير إنساني ويجب التخلي عنه، وإذا كان نصا قرآنيا، فيجب التعامل معه بشقين لا واحد منهما، التأويل، والزمنية، أو التاريخية، فهو غير ملزم وغير ممتد، وحتى يكون غير ملزم وغير ممتد، فيجب أن نتخلص من النص البشري للشافعي الذي يقول، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا نفرق بين قداسة النص وقداسة الحكم، فإن كان النص مقدسا يتعبد به، ولكن الحكم يخص زمنه، فلا يجوز أن نقطع يد السارق الآن، وهناك سجون وأمور تعذيرية أخرى، هذا كان يستخدم في عصور بدوية لا تعرف السجون، والعقوبات يجب أن تكون بدنية، فلا مجال للصرف على سجون وسجانين وأكل وشرب للمسجون، هذا أنشئ لاحقًا وعندما أنشئت السجون، فقد تلاعبوا بالنص بدلاً من تزمينه، وضعوا 13 شرطًا للقطع شبه تعجيزية، الوفرة والحرز وعدم القرابة وأن لا يكون من المال العام وغيرها من الشروط، بحيث أفرغوا النص من قوته وأعطوا لأنفسهم براح التملص منه، لأنهم كانوا يريدون الحفاظ على التدين المصنوع، الذي يجرم الخروج على الحاكم ما دام لم يظهر كفرًا بواحًا، وإن جلد ظهرك وسفك دمك وهتك عرضك، اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ومن مات دون بيعة مات ميتة جاهلية، وكان مقصود بها البيعة للحاكم، رغم أن كبار الصحابة مثل سعد بن عبادة رفض البيعة لأبي بكر ومن بعده عمر، وقتل في الشام في عصر عمر، وقد كان زعيم الخزرج، وقالوا إن الجن قتلته لأنه يتبول واقفًا، وصاغ التدين هذا الأمر دون أي حرج، ويريدون أن نقدس تلك الأقوال، لأننا أفسال ولا يحق لنا أن نتحدث عن الطبري ولا الشافعي ولا يحق لنا أن نختلف معهما. ولكنهم أعطوا لأنفسهم هذا الحق، وقالوا يجب أن تصل إلى علمهم، ووضعوا للعلم معايير خاصة تخصهم ،ويريدون أن يفرضوها علينا، وأصبح مصطلح أهل العلم، ووصلت بهم الجرأة أن حرموا نقدهم، أقصد الحاليين وليس التاريخيين، وقالوا لحوم العلماء مسمومة، بمعنى من تحدث عنهم أو انتقدهم فالويل والثبور وعظائم الأمور والبلاء من الله تعالى على هذا العبد، لقد جعلوا الله والعياذ بالله كأنه يعمل لديهم، يسلطون عذابه على من أرادوا وعلى من انتقدهم في العموم. إن لم نتخلص من هذا العبء الثقيل المحمَّل زورًا على الدين فنحن فى خطر عظيم، والله أعلم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف