المصرى اليوم
سيلفيا النقادى
«زبالة».. خارج القائمة
قررت أن أتخلص من سلة الزبالة التى رافقتنى طويلاً، وانتقلت معى من بيت إلى بيت، كانت دائماً فى حالة جيدة، وكنت أخرجها فى منتصف الليل بعناية شديدة حتى يسلمها لى فى الصباح الباكر عامل القمامة فى حالة مزرية، وذلك بالرغم من توصيتى وإلحاحى الدائم على أن يكف عن العبث بداخلها، أو بمعنى أدق داخل الكيس البلاستيك الذى تحتويه، ولكن - لا حياة لمن تنادى - لذلك طلبت من المستخدم بالمنزل أن ينزل بها ويسربها ليلاً حتى تؤنس رفقاءها المنتشرين فى كل أنحاء وأحياء القاهرة، وذلك بعد أن رفض عامل القمامة تصنيفها ضمن قائمة أصناف الزبالة، وبالتالى رفض أن يأخذها مع باقى القمامة.
بعد أسبوعين، كنت أمر بسيارتى فى الشارع الرئيسى الأنيق فى حى مصر الجديدة، وهو الشارع القريب من منزلى.. كانت ابنتى تستقل السيارة معى.. وإذا بى أفاجأ بصفيحة زبالتى تتصدر أعلى القائمة من أكوام الزبالة المبعثرة بالشارع.. توقفت على الفور، وصِحت أنا وهى فى صوت واحد «الزبالة بتاعتنا».

بعدها انتابتنى مشاعر فى الحقيقة غريبة، حيث شعرت بتأنيب الضمير أننى قمت بالتخلى عن زبالتى بالرغم من زهوها وانفرادها.. إنها لا تنتمى إلى القائمة مثلما قال العامل.. شعرت بتأنيب أكثر عندما تساءلت ابنتى «ترى ماذا يشعر به هذا الصندوق الصفيح بعدما هجرناه؟ بالتأكيد سيعتقد أنه قام بشىء سيئ أو خاطئ، أدى بنا إلى التخلى عنه!!».

تخيلوا.. كان هذا الحوار حزيناً تفوح منه رائحة من الذكريات لأيام كان هذا الصندوق الصفيح يحمل معلبات وزجاجات وبواقى أطعمة ولحوما وحلوى و(cans) من المشروبات الغازية حتى الفواكه والخضروات التى عطنت أو تلفت.. كان تنوعها مميزاً.

ربما هذا التميز الذى كان يحتويه الصندوق هو ما كان يدفع بالقطط والكلاب الضالة للنبش داخله، وهو ما يفسر عودة الصندوق فى حالة مزرية!!... الآن الحال تغيرت، ولم يعد لمحتوى الصندوق هيبته فى الشارع أو بين من يحوم حوله!!.

لقد فقد مضمونه، ولم يعد مصدراً للتباهى والزهو أو حتى العطاء.. كانت أزمته الاقتصادية الناتجة عن غلو الأسعار وارتفاع سعر الدولار وراء أسباب فلسه.. اكتئابه.. وكسرة نفسه!! وكان هذا واضحاً دون كلام.

«ركنت» سيارتى جانباً وأخذت أدقق النظر فى محتوى أكوام الزبالة المجاورة لصندوقى اليتيم.. كانت فارغة من أى شىء يثير الاهتمام.. لم تحتو على فضلات طعام كثير بقدر ما احتوت على أوراق وسرنجات وعلب دواء وزجاجات فارغة.. كانت خاوية من القطط والكلاب.. كانت خاوية من طعم البيوت.. كانت جافة باردة بما تحمله من حال وأغراض أصحابها!!.

وكان هذا مشهداً مؤثراً، تذكرت فيه مصوراً ألمانياً كان يعيش فى القاهرة منذ عشر سنوات، جاء إلى مكتبى فى الأهرام عندما كنت رئيسا لتحرير مجلة «البيت»، الصادرة عنه، وعرض علىّ صوراً جميلة جداً لأشكال وألوان متراصة بشكل فنى بديع.. قلت له: «ما هذا؟»، قال: «هذه أشياء من القمامة جمعتها وصنفتها وخلقت منها لوحات فنية ثم قمت بتصويرها».. عجبتنى الفكرة وقمت بنشر الموضوع تحت عنوان «فنون الزبالة»!!.

والآن أكمل مشوارى مع ابنتى وسط زحام القاهرة وضجيجها.. وسط أكوام من القمامة الهائلة تزين مداخل شوارع وبيوت جميلة، أعبر فوقها أحياناً حتى أصل إلى شارع أو بر آخر.. أرى أطفالا يمرحون خارج أسوار مدارسهم حولها.. أستنشق نسيمها العفن ولا أدرى إلى أين سيأخذ بصحتى!!، ومع ذلك أحمد الله أنه- حتى الآن- لم يحدث لنا مثل ما حدث فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، منذ عدة أيام، وذلك عندما انهارت أكوام الزبالة المجمعة فوق الناس فى بيوتها وقتلت أكثر من 120 فرداً ماتوا أحياء تحت القمامة!!.

القمامة أصبحت جزءا من حياتى.. جزءا من ثقافتى.. جزءا من اقتصادى.. وحتى من ذكرياتى!!، ولا عجب أننا أصبحنا نتكلم زبالة.. نقود السيارات زى الزبالة.. نتعامل بزبالة.. نبث زبالة.. ونعمل بأخلاق زبالة.. ويا ليتهم يعرفون كيف يقومون بتدويرنا حتى يفصلوا بيننا وينتقوا الصالح من العفن!!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف