التحرير
أحمد بان
علاقة التصوف بالسياسة في مصر
ربما من الصور الذهنية الشائعة لدى قطاعات واسعة من المصريين، أن جماعات وحركات التصوف لا تنشغل بالسياسة ولا تتدخل فى أمور الحكم، وأنها تقليديا إلى يمين السلطة وربما تابعة لها بشكل مطلق، لكن هذه الصورة التى ربما تعبر عن بعض مراحل العلاقة بين الطرفين. التصوف وجماعاته من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى، قد لا تعبر بشكل دقيق عن الخلفيات التاريخية التى تشرح كيف أصبح دور التصوف على هذا النحو الذى نراه ونعرفه، حيث تطور الدور السياسى للمتصوفة فى مصر خلال القرون الثلاثة للاحتلال العثمانى، وبمقارنة دورهم السياسى خلال ذلك العصر بدورهم فى العصر المملوكى نجد أن تحولا قد حدث، حيث ظهر هذا الدور فى العصر المملوكى فى شكل شبه عفوى، ولم يكن واضحًا أو مستمرًّا فى حل المنازعات أو التأثير بقوة فى الأحداث وغلب عليهم التقوقع داخل بيوتهم الصوفية. أما فى العصر العثمانى فاشتركوا فى الحياة السياسية بشكل مباشر وغير مباشر، ولعبوا دورًا مهمًّا فى مساندة ممثلى السلطة العثمانية أو فى مساندة المماليك ضدها، أو حتى فى الوساطة بين الطرفين أو فى النزاعات البينية التى حدثت بين المماليك. وتدرج هذا الدور خلال القرون الثلاثة فكان دورهم فى القرن السابع عشر أقوى من دورهم فى القرن السادس عشر، وكان فى القرن الثامن عشر أقوى منه فى القرنين السابقين، كان ذلك بسبب تطور وضعهم الاقتصادى والفكرى ومكانتهم الاجتماعية وتنظيمهم، ومن هنا فليس من المستغرب أن يلعب هذا الدور مجموعة من الزعماء ضمت المشايخ والعلماء والأثرياء والمشاهير، ومن ثم تميز دور المتصوفة السياسى بوجود ظاهرة الزعامة الصوفية. وإذا كان القرن السادس عشر الميلادى قد شهد ظهور الشيخ البكرى والشيخ الشعرانى كزعيمين صوفيين، فإن القرن السابع عشر شهد ظهور الشيخ السادات وبعض مشايخ الطرق، بينما برز فى القرن الثامن عشر عدة زعماء كالشيخ البكرى والشيخ السادات وبعض متصوفة علماء وشيوخ الأزهر، بالإضافة الى مشايخ الطرق التى ازدهرت مثل الخلوتية والبيومية. ربما نمط العلاقة بين الشيخ والمريد كان له أثر على قبول الاستبداد، قياسًا على أن هذا هو شكل العلاقة الممكن بين السلطة الروحية أو المادية. ولقد استفاد المتصوفة من المتغيرات السياسية فى مصر فى البداية، استفادوا من تعدد السلطات العثمانية وتقربوا منها بأشكال مختلفة، وبعد ضعف العثمانيين وبروز المماليك كقوة محلية قوية استطاعوا الاستفادة منهم أيضًا. فى الوقت نفسه استفاد المتصوفة من الأوقاف الكبيرة والهبات التى خصهم بها الحكام والمحكومون للإنفاق من عوائدها على أنفسهم ومؤسساتهم، بل ودخلوا مجالات اقتصادية مختلفة كتجار وملتزمين وأصحاب رؤوس أموال. وعلى كل أفاد الدور السياسى للأزهر المتصوفة بشكل كبير، حيث برز مكون جديد هو المتصوف الأزهرى أو الأزهرى المتصوف، وبالتالى حدث شكل من أشكال الاندماج بين الدور السياسى للطرفين الأزهر والمتصوفة، وظهرت فى شخصيات كالشيخ عبد الله الشرقاوى والشيخ الحفنى والشيخ الدردير وغيرهم، ولقد برع بعض زعماء المتصوفة فى التعامل بمكر ودهاء مع حكام مصر فى العصر العثمانى، ومن هؤلاء الشعرانى الذى وضع فى كتبه الكثير من تلك الأساليب وشرحها باستفاضة، لتصبح منهاج عمل أو طريقة للتعامل السلس مع السلاطين فى مواجهة ظلم بعضهم، لكن بشكل عام لم يكن التعامل مثاليا بين الطرفين، حيث سيطر الطابع النفعى على علاقات المتصوفة السياسية مع الدولة والباشوات والموظفين والجنود، حيث تبادلوا المنافع، قدم لهم المتصوفة المساعدة بعدة أشكال ودرجات، وفى المقابل قدم لهم الحكام العون المادى من أوقاف وهبات وغيرها، فضلا عن الدعم المعنوى عبر الحماية والتقرب والتزاور، وهنا تكمن إحدى سلبيات الدور السياسى للمتصوفة فى ذلك العصر، فقد لعبوا دورًا مزدوجًا، فشجعوا العثمانيين إبان قوتهم وشجعوا المماليك ضدهم بعد بروزهم كقوة فاعلة، وكان هذا وذاك بمثابة دور سلبى، حيث استغل الشيوخ نفوذهم عند المصريين لخدمة الطرف الذى يستطيع أن يضمن أكبر قدر من المكاسب المادية والمعنوية لهم، مما جعل المجتمع المصرى فى النهاية من المجتمعات المذعنة والهادئة والقابلة لاستمرار الاحتلال. ورغم هذا المنحى السلبى الذى أضحى لونًا اجتماعيًّا مميزًا ترسخ مع الزمن، فإن زعماء المتصوفة البكرية والسادات وزعماء الطرق وعلماء الأزهر وشيوخه كانوا أصحاب الدور السياسى الأساسى، فإن المتصوفة بوجه عام استفادوا من هذا الدور فى عدة صور منها المنشآت الصوفية كالتكايا والزوايا والجوامع والمساجد والمقامات والقباب وغيرها من المنشآت، التى أنشأها الباشاوات والأمراء والموظفون للمتصوفة على اختلاف أنواعهم وفئاتهم، ومنها الأوقاف التى أوقفها الحكام والموسرون على المتصوفة، هذا بالإضافة إلى الاحترام الذى لقيه المتصوفة من المجتمع بكل فئاته وطبقاته، وتمثلت فى الزيارات لمساكن الأحياء منهم وقبور الأموات وقبول شفاعتهم وغير ذلك من الأمور، وفى ظروف خاصة أدى الدور السياسى للمتصوفة لرفع الظلم عن كاهل المصريين بالتخفيف من فرض الضرائب الجديدة أو بعدم التعسف فى جمعها. ربما اعتمدت مقاربة المتصوفة فى العلاقة مع السلطة السياسية المهادنة والموادعة، مع فتح الباب للمودة ومحاولة تأليف قلوب الحكام ومحاولة نيل أكبر مكسب ممكن ماديًّا أو معنويًّا، وربما أسهمت تلك النزعة الواقعية والبراجماتية فى ازدهارالتصوف الطرقى على حساب التصوف العرفانى المشغول بالتزكية والتربية، لكنها وفرت مساحة آمنة للتدين تبقى فى منعة من غارات الحكام، لكنها أيضا انعكست على تركيبة هذا الشكل من أشكال التدين الذى شل الفعالية السياسية أو ظهرها لحساب السلطة بشكل دائم، حتى أصبحت فى الغالب صيغة التصوف الطرقى تابعة لظل السلطة الثقيل، بما جعل تلك الصيغة غير مؤثرة فى سلوك الحاكم أو خياراته مقارنة بالتصوف العرفانى المستقل، الذى يسعى لصلاح الجميع حكامًا ومحكومين زاهدًا فيما فى أيدى الطرفين، مربوطًا بربه ساعيًا لربطهم هم جميعًا بربهم فى رحلة ترقى تبدأ ولا تنتهى أبدًا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف