الوطن
محمد المعتصم
عظّم شهيدك
الحياة خيارات، أعظمها أن تختار الوطن، فارق كبير بين أن تتشدق حباً أمام الشاشات، وتتغنى فى تراب البلد، وأن تقف مبتسماً فى قلب الصحراء، منتظراً أن تصعد روحك إلى بارئها فى أى لحظة، برصاصة من جبان يختبئ بين الصخور، أو بلغم زرعه من هو أجبن منه، من يخشى المواجهة الفعلية ويتستر مثل خفافيش الظلام.

كثيرون من يتغنون بالوطن، وأكثر منهم من يتاجر به، لكن الأكثر صدقاً وإخلاصاً هو من تأتيه الفرصة ليحدد مصيره، فلا يتردد ويقدم روحه فداءً، عن أبطالنا فى سيناء أتحدث، عن رجال جاءتهم لحظة الاختيار فلم يترددوا، عن مصابين تمنوا الشفاء سريعاً ليعودوا إلى الجبهة من جديد ليقاتلوا وينتصروا على عدو أسود، عن أسود عندما ينطلق صوت الرصاص يتقدمون ليحمى كل منهم بقية الزملاء بروحه.

أعرف مئات القصص لشهداء قواتنا المسلحة، جمعتها من مصابين فى عمليات عبر لقاءات وجلسات، فضلاً عما شاهدته وقرأته فى لقاءات صحفية وتليفزيونية، أدوّن فى أوراقى قصصاً هى أشبه بالمستحيل لأبطال قاتلوا حتى اللحظات الأخيرة، وهم يقفون لحماية زملائهم وتأمين تحركهم للسيطرة على المعركة..

بين «الطلقة» و«الشهقة» لحظات لم يتخلَّ فيها الشهيد عن سلاحه ليتذكر والدته أو زوجته وأولاده.. وفضّل أن يستغلها لتأمين من معه من أبطال وتوفير غطاء آمن لهم.. الطبيعى إذا أصيب جندى فى معركته أن يطلب مساعدة لينقل فى الصف الخلفى لإسعافه، هذا هو الطبيعى والمنطقى، لكن ما يحدث هو عكس ذلك تماماً، السلاح مثل الأرض عرض، وإطلاق الرصاص منه فرض عين حتى تصعد الروح، خروجك من المعركة مصاباً معناه أن تعود سريعاً لتقتص لزملاء وأصدقاء كانوا شركاء لك فى ليالى البرد القارس، تلك الليالى التى قضاها البعض متدثراً فى منزله بما ثقل وزنه، لكن عند أبطال مثل جنودنا تربوا على أن الاستشهاد فى سبيل تراب الوطن هو الغاية، وأن التقرب إلى الله يبدأ بالإيمان بحب الوطن، يبقى الأمر مختلفاً، فالبرد والأمطار يتطلبان الانتباه أكثر، فالعدو هو أجبن من أن يقاتلك وجهاً لوجه، بل ينتظر ليستغل أسوأ الظروف ليهاجمك.

عظّم شهيدك.. فشهيدك هو البطل الذى ضحّى بروحه لتبقى آمناً فى سربك.. عظّم شهيدك، فروحه الطاهرة منحتك العزة والفخر لأن تعود إلى بيتك وتنظر فى عينى زوجتك مطمئناً.. عظّم شهيدك، فالثمن الذى تحتضن به ابنك وأنت تلاعبه وتهدهده بلا قلق دفعه عنك، وتحمّلته أسرته.. عظّم شهيدك، فكرامتك لم تهدر وأنت تبحث لأسرتك عن ممر آمن أو مكان فى سفينة تعبر بك البحر، بسبب الدماء التى سالت منه.. عظّم شهيدك، فقد ترك خلفه أُمّاً تنتظر عودته لتأخذه بين عينيها، وزوجة تبحث عن رائحته فى المنزل، وابن يحتاج أن يمسك بكفه الصغير ليحتمى بها من أيام لا يعرف ماذا تحمل له.

عظم شهيدك ووالدة شهيدك وزوجته وأولاده وإخوته، فما فعلوه لنا هو دين فى عنقنا علينا أن نكون أهلاً لسداده.. عظّمهم وافخر بهم وادعمهم وقبّل الأرض تحت أقدام كل أم أنجبت للوطن بطلاً دفع حياته ثمناً لنستمر فيها، ادعُ لهم بالصبر على الفراق وعظّم لهم قدرتهم على الاحتمال وشد على أيديهم.. هل أحدثك عن والدة المقدم الشهيد أحمد مالك، أحد أسود سيناء الذى استشهد مساء أمس، ليلحق بشقيقه النقيب الشهيد إسلام مالك، هل أحدثك عن الرائد الشهيد محمد عمر سليمان وحالة الحزن التى انتابت أسراً كثيرة من البسطاء انهاروا فى البكاء بعد علمهم بالنبأ، لتكتشف أسرته أنه كان يقدم معونات فى السر ويفك كرب الغارمات.

عظّم شهيدك.. فروحه التى ارتقت إلى الجنة رفعت معها كرامتنا إلى السماء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف