الأهرام
أمينة شفيق
الحالة الدينية فى مصر عام 2017
أستعير هذا العنوان من هذين المجلدين المهمين اللذين صدرا عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية للأهرام علي جزءين في عامي 1996 ثم 1998 وقدما دراسة مدققة فريدة عن الواقع الديني في مصر من حيث المؤسسات وتنوعها الفريد من اسلامية ومسيحية ويهودية وعدد اتباع كل منها مع تقسيمات كل منها وتاريخها علي الارض المصرية. وكانت هذه الدراسة التي تقاسم في تمويلها كل من مؤسسة الاهرام ومؤسسة كونراداديناور الالمانية، قد لاقى جزؤها الاول ترحيبا بالغا، مصريا واقليميا، مما أدي إلي طباعته خمس طبعات متتالية، نفذت كلها.

وكانت ظروف صدور الدراسة هي تلك الحالة التي تعرضت مصر حينها للهجمات الارهابية الشرسة في الصعيد والقاهرة خاصة تلك التي تمركزت علي الاخوة المسيحيين سالبة أرواحهم الطاهرة وأموالهم الحلال. وقد دققت الدراسة في مناقشة جذور المواطنة المبنية علي ذلك الامتداد التاريخي لكل المصريين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. لذا لم يكن مستغربا ان تقوم الدراسة في الاساس علي اكتاف اثنين من الزملاء الباحثين الرواد في مجال البحث والكتابة عن المواطنة والفكر الديني والتيارات الدينية في المركز والمهتمين بتطوراتها منذ بداية نشأة الدولة المصرية الحديثة هما الزميل الاستاذ نبيل عبد الفتاح، رئيس تحرير المجلدين ومعه الزميل الاستاذ ضياء رشوان مدير تحريرهما ومعهما عدد كبير من الباحثين والمفكرين المصريين الذين اجتهدوا في البحث عن اساس قيمة المواطنة والانتماء. وقد كتب مقدمة المجلدين الزميل الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس المركز حينذاك.

والقيمة الحقيقية للدراسة والتي برزت عند الصدور، ولا تزال سارية إلي يومنا، أنها شرحت وبالتفصيل الصورة الكاملة لحالة الأديان الثلاثة، مذاهبها تقسيماتها وتاريخ وجودها في مصر وتعداد أتباعها ووزن كل منها النسبي وتتابع رؤسائها واهم ملامح كل منها بحيث عرف المصريون، او العدد الذي اهتم بالدراسة، ان وجود الآخر معهم علي أرض الوطن له ارضية تاريخية ويستند علي واقع ملموس له تقاليده وتراثه وبناؤه التنظيمي وعلاقاته الداخلية التي يحترمها الجميع. والتي يجب ان نحترمها كلنا ونحافظ عليها ولا نجعل اي منها فريسة لصراع ارهابي يسعي لتصفية التراث المتنوع في مصر والذي يميزها عن غيرها والذي هو كامن في ذاكرتها، كما ميزها وعاش معها منذ القدم.

والمدهش في الأمر أن المجلدين عرف كل منهما الآخر ليس فقط بالاطار العام وانما بالتفاصيل التي لم نكن نعرفها جميعا من قبل مما اسهم قديما في احداث تباعد استفاد منه أصحاب البرامج المختلفة الخاصة. ويمكن القول ان صدور المجلد الأول وبعده المجلد الثاني كان كالمفاجأة للكثيرين منا لأنهما عرفانا بحالنا بكل موضوعية وظهرا في زمان كانت الأرصفة في شوارع القاهرة وغيرها من العواصم تمتلئ بالشروح الدينية التي اقتربت من الشعوذة التي لا علاقة لها بالدين الحقيقي او بسماحته او بروحه الاستيعابية، وتحديدا الدين الاسلامي. فوسط محيط من المهاترات واللاعقلانية سحبت الدراسة جمهورا إلي التعقل والتفكير المجتمعي السليم الذي اخذ كل من قرأهما إلي اعتبار الآخر شريكا حقيقيا في هذا الوطن منذ الزمان القديم. شركاء في الدفاع عنه وفي مناطحة تخلفه وفي بناء مجتمع ديمقراطي متجانس يصنع السعادة لكل مواطنيه بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي وعرقهم وانتمائهم الديني او السياسي.

ما الذي دفعني لاسترجاع ذلك الماضي القريب؟

لقد دأبت علي استرجاع ذلك الماضي القريب منذ احداث يوليو اللاحق لفض ميداني النهضة ورابعة واشعال الحرائق بـ 63 كنيسة ومنشأة مسيحية. وثقل علي هذا الاحساس مع حوادث هروب المصريين المسيحيين من مدينتهم، العريش هربا من حوادث القتل والحرق التي لحقت بهم بلا ادني سبب الا لانهم مسيحيون يتبعون كنائس يسوع المسيح بن مريم العذراء. هرب المصريون المسيحيون من العريش، المدينة الساحلية التي مرت بها الاسرة المقدسة وهي في طريقها إلي قلب مصر، بلد الامن والأمان في ذلك الزمان البعيد.

فالآن يطالب الكثيرون من المثقفين المصريين المسلمين وغير المسلمين بضرورة ضم تاريخ الألف عام التي تميزت بالحكم القبطي لمصر إلي المناهج الدراسية المصرية بعد أن أهملها نظام التعليم واعتبرها كأنها لم تكن. كما يطالب العديد من المثقفين المصريين بضرورة إعادة تدريس الجزء الخاص بإلغاء نظام الجزية التي كانت مفروضة علي المصريين المسيحيين مقابل عدم تجنيدهم في الجيش المصري، إلي كتب التاريخ المصرية كما كانت تدرس في مناهج التاريخ الثانوي في مدارس خبراء تربويين مثل اسماعيل القباني ود.طه حسين. وهو القرار الذي اصدره الخديو سعيد في منتصف القرن التاسع عشر، الحاكم الذي جلس علي سدة الحكم بعد محمد علي وابراهيم باشا وعباس حلمي الأول. كان هذا القرار يدرس ضمن انجازات الخديو سعيد علي اساس أنه القرار الذي يضع اسس استقرار قيمة االمواطنة في المجتمع ويعترف بمسئوليتنا المتساوية في التجنيد للدفاع عن الوطن.

لقد نددنا وشجبنا وهرعنا للمساندة، ولكننا لابد أن نتجه إلي الحركة التي تسهم في أن يتحول هذا الفهم العميق الذي يملكه البعض منا إلي فهم عميق عام يسكن كل ضمائرنا بحيث لا يتجرأ أحد، مهما كان، علي المساس بكياننا الثقافي الأهم، والذي لا يقبل إلا أن نعيش بتنوعنا الذي ورثناه وعايشناه، ليس خوفا من الدولة وقانونها وانما خوفا من ضميرنا الوطني الانساني في المقام الأول.

لقد آن الأوان أن نحول مضمون المجلدين الصادرين من مؤسسة الأهرام في عامي 1996 و1998 مع غيرهما من المؤلفات المشابهة، وما أكثرها، والتي تبحث في ذات الموضوعات، المواطنة والتعايش والتمييز والتاريخ الحقيقي غير المزيف لبلدنا، نحول كل هذه القيم التي تسهم في بناء الانسان السوي إلي مادة تخص وتتجه إلي عموم الدارسين والقراء أفضل من كونها مرجعا علميا يدور في حلقة ضيقة من الدارسين والمثقفين.

لقد قامت مؤسسة الاهرام بواجبها بدلا عن مؤسسات التعليم والثقافة وحتي المؤسسة الجامعية، كما قام الزميلان نبيل عبد الفتاح وضياء رشوان بواجبهما دون ان يطلبه منهما احد او يطلبان مساندة اي مسئول. وحتي التكلفة الكبيرة لهذا العمل الكبير فقد جاءت من منظمة المانية (غير مصرية وغير عربية). فماذا تنتظر مؤسسات التنشئة الثقافية للدولة حتي تترجم هذا العمل، وغيره من اعمال قيمة مماثلة، الي مادة مبسطة تدرس في مدارسنا وجامعاتنا وتدور حولها النقاشات في قصور ثقافتنا ومنتدياتنا الثقافية في الاعلام؟

تري، هل لو كانت الدولة قد قامت بواجبها هذا منذ صدور المجلدين وغيرهما من دراسات، هل كان رئيس الدولة سيحتاج كل هذا الوقت للدعوة لتطوير الفكر والخطاب الدينيين؟

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف