المصرى اليوم
جمال الجمل
مقابلة خاصة مع بنت فريد*
(1)

التاريخ أمزجة، فأنا مثلا أحببت «مصطفى كامل» أكثر من «محمد فريد»، وليست لدي أسباب وجيهة يمكن أن أقنعكم بها.. مجرد «تكتات»، لكن هذا الموقف النفسي لا يصدر عن مزاج أعمى خال من المعنى، وهذه «التكات» الصغيرة، تستطيع كعادتها أن «تعمل من الحبة قبة»، و«التكة» التي أعرفها جيدا في الفرق بين كامل وفريد، هي نضال الأول في الداخل، وهروب الثاني إلى أوروبا، ونضاله من الخارج.

(2)

كانت حالة الحرية بعافية، كما هي عليه الآن، وتم استدعاء محمد فريد بتهمة كتابة مقدمة ديوان شعر!، ولما تأكد أن النية مبيتة لحبسه والتنكيل به، هرب إلى فرنسا، وقيل إنه سافر بالصدفة فلما بدأت محاكمته غيابيا، نصحه بعض الأصدقاء بالبقاء في الخارج، وبقي فعلاً، وهذه هي «التكة» التي لم تعجبني صبياً.

(3)

نشأت الأزمة بسبب ديوان «وطنيتي» للشاعر على الغاياتي، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة عام، فهرب إلى إسطنبول، ومنها إلى سويسرا في رحلة منفى طويلة، كما تم الحكم على فريد بالسجن 6 أشهر، بسبب كتابته للمقدمة التي قال فيها: «إن استبداد حكومة الفرد أدى إلى إماتة الشعر الحماسي، وحمل الشعراء (بالعطايا والمنح) على وضع قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء، وابتعادهم عن كل ما يربي النفوس ويغرس فيها حب الحرية والاستقلال... كما كان من نتائج هذا الاستبداد: خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع، حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد في الدنيا، والحض على الكسل وانتظار الرزق بلا سعي ولا عمل»، والمضحك المبكي في هذه القضية أن المحكمة حكمت على الشيخ عبدالعزيز جاويش حضوريا بالسجن ثلاثة أشهر «لتقريظه للديوان».!

(4)

قبل شهور كنت منهمكا في مراجعة كتاب الصديق محمد شعير عن نجيب محفوظ، فوجدت نص رسالة كتبتها فريدة (ابنة محمد فريد) لحث والدها على العودة إلى وطنه، حتى لو دخل السجن، وقلت في نفسي: تعيش فريدة محمد فريد.

(5)

قالت فريدة في رسالتها لوالدها: «لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبدالعزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم. وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن!».

(6)

الله الله.. تعجبني هذه الطريقة في التفكير، وفي النضال، فقد أحببت الدراما الرائعة التي تصاعدت بعد ذلك، وأحببت معها محمد فريد الذي عاد، ودخل السجن فعلا، ليقضي فترة عقوبته ستة أشهر كاملة.

(7)

الدراما لم تقتصر على العودة ودخول السجن، لكن عبدالرحمن الرافعي يحكي جانبا من الدراما فيقول إن كوكس باشا مدير مصلحة السجون زاره داخل محبسه، وقال له: إني على أتم استعداد للسعي في طلب العفو عنك، لكنني أريد وعدا منك بتغيير خطتك (يقصد خطه السياسي).

فأجابه فريد: إن ما تطلبه مستحيل.

تراجع كوكس وقال: أنا لا أطلب منك تغيير مبادئك ولكن تخفيف لهجتك.

رفض فريد أي مساومة لا في المبادئ ولا في اللهجة.

فقال كوكس: أنت إذن تريد أن تمضي الستة أشهر في السجن؟

أجاب فريد: وأزيد عليها يوما.

(8)

تضايق الخديو عباس من هذا الموقف المتعالي لفريد، والذي يضعه في موقف العدو للحركة الوطنية (برغم تعاونه مع المستعمر الإنجليزي كان حاكما عنده دم)، فأرسل

عثمان غالب لإقناع فريد بقبول العفو: «لقد جئت لزيارتك موفدا من الخديو، وجنابه مستعد للعفو عنك، إذا قدمت طلبا بذلك، فإن لم تشأ تقديم الطلب بنفسك، أقدمه أنا نيابة عنك».

قال فريد: «أنا لا أطلب العفو، ولا أسمح لأحد من أهلي وأصدقائي أن يطلبه نيابة عني، وإذا صدر العفو فلن أقبله».

(9)

قضى محمد فريد مدة السجن كاملة، ولما خرج كتب: «مضى على ستة أشهر في غياهب السجن، ولم أشعر أبدا بالضيق، إلا عند اقتراب أجل خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، هو سجن الأمة، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال، نعم إن كل أمة هُضم حقها، وحرمت دستورها واستبدت بإرادتها حكومة فردية تعززها الجيوش الأجنبية، لهي أمة سجينة ما دامت أمورها بيد غيرها».

(هامش)

في حوار له مع مراسل صحيفة «سييكل» الفرنسية، هاجم فريد تقييد حرية الصحافة، ومصادرة العديد من الصحف، أو تعطيلها عن الصدور (لم تكن النقابة قد تأسست ليتم تدجينها أو اقتحامها) وبعد انتقاده لأعلى سلطة في البلاد، أظهر فريد بعض التفاؤل ولخص الحالة التي وصلت إليها مصر في ثنائية أزلية طالت وباخت: «لدينا جانبيان: الخديو متحالف مع أعداء البلاد ومعهما بعض المداهنين في جانب، وفي الجانب الآخر توجد الأمة كلها.. تطالب بحريتها».

..........................................................................................................................................

* العنوان يشير إلى قصيدة أمل دنقل «مقابلة خاصة مع ابن نوح» التي يقول فيها عن الوطن: «طوبى لمن طعِموا خُبزه/ في الزمانِ الحسنْ/ وأداروا له الظَّهرَ/ يوم المِحَن!// ولنا المجدُ- نحنُ الذينَ وقَفْنا نتحدى الدَّمارَ (...)/ ونأوي إلى جبلٍِ لا يموت (يسمونَه الشَّعب!) نأبى الفرارَ/ ونأبى النُزوحْ!

- أنصح بقراءة القصيدة كاملة على الإنترنت، حتى لا تتحول كلماتها إلى ذريعة لحبس محمد فريد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف