فيتو
د. صلاح هاشم
حوار مع صديقي الإرهابي!
في عام 1997 أجريت دراسة ميدانية حول دوافع "حِيازة السلاح" وكيفية الحد منها.. وأثناء تطبيق استمارة البحث على عينة من المجرمين "الجِنائيين" الذين ارتكبوا جرائمهم باستخدام أسلحة صغيرة.. وبصرف النظر عن نتيجة البحث "المُوجِعة" والتي كانت بمثابة "ناقوس" يُنذرُ بخطورة تلك الظاهرة على أمن المجتمع؛ خاصة إذا ما شعر الحائزون لتلك الأسلحة بضعف قدرة الدول على كبح أهوائهم الطائشة، حيث تضمن البحث سؤالًا حول دوافع القتل؟

وإجابة هذا السؤال بالتحديد، هي التي دفعتنى إلى إجراء حوار بسيط مع ذلك الجنائي القاتل.. وسألته مباشرة لماذا قتلت؟ فأجابنى "السجين "بلهجة تملأها الثقة والفخر: "كُنتُ أُطَبِقُ دينَ اللهِ".. وحينما سمعت إجابته؛ نحَيِّتُ الاستمارة جانبًا.. ونظرة إليه في عجب، ثم قُلت: أىُ دين طَبَّقتَ يا رجل؟ فأجابنى القاتل بسؤال: ألست بمسلم أنت؟! فقلت له "بلى "مسلم.. لكن دينى لم يأمرنى لا بقتل ولا بسَّب.. فللدين مفهوم "ضيق" وآخر "مُتَسّع"!

وما إن سمع القاتل إجابتى حتى قال: "لكن دينَ الله واحد.. فكيف يكون فيه ضيقٌ ومُتَسّعٌ؟ وكأنه أراد أن يستفهم عن الفارق المفهوم الواسع والضيق للدين.. فقلت له: في المفهوم "الَضِّيق" للدين يكون الحلال "استثناءً"، وأفضل أنواع الدواء فيه هو "الكَي".. بينما في المفهوم "الواسِع" للدين يكون الحرام هو "الاستثناء".. وتكون فيه العبادة "فُسحَة" والقول بالمعروف خير من الصدقة التي يتبعها "أذى"!

ودون أن أدرى عَلا صوتى سائلًا إياه: يا رجل.. كم "بريء" مات بهذا "الفهم" على يديك؟ يا أخى.. ما ضَيَّقَ الدين أحدٌ إلا وهَلك.. وما وَسَّعَه أحدٌ إلا ونجا.. يا رجل: ألم تعص الله قط؟ فأجابني، بعد أن طأطأ رأسه إلى الأرض: "بلى" فكُليِ مَعَاصٍ.. ولم أرجو من الله سوى "رحمته".. فقلت له كيف تطلب رحمته وقد ضَيَّقَتها على عِبَاده؟ يا رجل.. "الدينُ واسِعٌ" وكلٌ يأخذ منه على قدر فَهمِه.. وكلٌ يأخذ منه على قدرِ طاقته.. وكلٌ يُحَصَل منه على قدرِ إيمانه.. اللهُ رحيمٌ يا هذا.. فلماذا لا نُصبحُ رحماءً مِثلُه؟!

حوارى معك ربما لا يفيدك.. لكن الشيء الوحيد الذي خرجت به: هو أنك جعلتنى أعرف: "لماذا أنت إرهابى..؟" ربما لا يُمكنُنى الآن مواجهتك؛ لضعف الخطاب الذي أملكه، وقوة السلاح الذي بيدك.. لكنني حتمًا سألتقيك، فانتظرني.. حينما يقوى "الخطاب" الذي في عقلي.. على مواجهة "السلاح" الذي في يدك!

وفى حين كنت أستهدف من دراستى أشياء.. لكن حواري مع هؤلاء "القَتَلَّة" أوصَلني لأشياء أخرى ربما كانت بالنسبة لى هي الأهم، رغم أنها لم تكن مقصدى! فقد أدركت تماما أن الإنسان ليس مجرمًا بطبيعته.. ورغم أن "الفقر" يعد عاملًا أساسيًا في معظم الجرائم التي ارتكبت.. لكن يظل "الفَهم" القاصر أو المريض هو الأهم! وأنه ليس هناك أناس يكرهون الدين، أو يعملون ضده عن عَمد.. وإنما هناك أناس لديهم "مفاهيم" مختلفة عن الدين.. وربما "تفسيرات" مغايرة لنصوصه.. وأن الأزمة دائمًا تكمن في ذلك "الفَهم" المريض أو "الإدراك" المجترئ؛ وهما اللذان غالبًا يؤديان إلى ممارسة سلوكيات منحرفة؛ لما يحملانه من أفكار قد تتجاوز المنطق الإنسانى، وربما تنتصر عليه!

وذلك بعكس "الفهم السليم" الذي يُبنى على معارف شبه كاملة، ويخرج من إدراك فطرى سليم.. يعترف بوجود الآخر، ويؤمن بالاختلاف، ولا يُنكِر التدينِ على أحد.. ولا يحتكر الفَهم الصحيح للدين على نفسه.. وينطلق من "فرضية" مفادها أن الكُلَ يفهم الدين على طريقته.. ولكن في أحايين كثيرة "تتقاطع" الطرق.. ويصبح على كل فريق إما أن يسمح بمرور الآخر، وإما أن يَدهَسه، أو يطغى عليه!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف