المصرى اليوم
جمال الجمل
الامتحان (8)
(1)
غريبة جدا هذه الحياة.. كان لديه بيت واسع، ومديرة منظمة جدا لترتيب مواعيد طعامه وشرابه، ومركز مرموق كطبيب ومدير مستشفى، ومع ذلك لم يجد راحته ولا سعادته في كل هذا، كما وجدها في عنبر المجانين والمرضى النفسيين، لهذا اعتاد الطبيب أندريه راجين أن يزور صديقه المريض إيفان جروموف يوميا، وأحيانا مرتين في اليوم، حيث يقضي الساعات للنقاش باستمتاع وسعادة عظيمة، لكن الأحوال لم تمضِ في سلام، فقد تولدت حالة من الدهشة والفضول، وكثر الكلام عن زيارات الطبيب الغامضة لعنبر المجانين، فهو يقضي هناك الكثير من الوقت، ومع ذلك لا يكتب أي روشتات، ولا يأمر بصرف أدوية، ويتحدث داخل العنبر بالساعات، في موضوعات غريبة لم يفهمها الحارس «نيكيتا» وهو يسترق السمع كعادته، وسرعان ما تحول العجب والفضول إلى ثرثرة وشائعات، ونميمة شريرة تتحدث عما وصفه الموظفون المتطفلون بـ«التصرفات الغريبة» للطبيب الكبير.

(2)

ذات نهار سأل الدكتور خوبوتوف عن رئيسه الدكتور راجين لتوقيع أوراق هامة، فأخبره الحارس نيكيتا أنه في «عنبر المجانين»، فاتجه إلى هناك وخلفه نيكيتا، وبينما هو في الممر سمع صوتا عاليا: «لن أوافقك أبداً على ذلك، ولن تستطيع أن تقنعني بعقيدتك»، فتوقف عند الباب، كان أحدهم يصرخ في الطبيب بعصبية: أنت لا تعرف الواقع مطلقاً، ولم تشعر بالألم يوما، لأنك كنت كالعلقة تعيش وتنتفع من آلام الآخرين، لذلك أعتبر نفسي أعلى وأعلم منك في كل مجالات الحياة، فاصمت ووفر حديثك لنفسك، فأنت لست أهلاً لأن تعلمني..!

(3)

شعر خوبوتوف بالذهول، وهو يسمع مديره يرد بانكسار وصوت خافت على المجنون الغاضب، ويقول له: أنا لا أسعى أبداً إلى تغيير معتقداتك يا صديقي إيفان، لكنني أتناقش معك، والمسألة ليست أنك تألمت وأنني لم أتألم، المسألة أننا (أنت وأنا) نفكر، وهذا ما يجعلنا ملائمين لبعضنا البعض، مهما اختلفنا في الآراء.. آه يا صديقي لو تدري كم مللت الجنون العام في الخارج، وسئمت الغباء وانعدام المواهب، وكم أسعد في كل مرة بالحديث معك؟.. أنت إنسان ذكي ومثقف، والنقاش معك متعة رائعة بالنسبة لي.

(4)

دفع خوبوتوف الباب قليلا، وأطل برأسه في العنبر فوجد الطبيب جالسا على السرير منكس الرأس، وبجواره مباشرة المريض إيفان مرتديا الطرطور، ويبدو متأففا ويتصرف بعصبية، ضرب خوبوتوف كفا بكف، وتبادل نظرة ساخرة مع الحارس «نيكيتا»، وفي اليوم التالي عاد خوبوتوف ومعه حكيم المستشفى للتنصت على المناقشات الغامضة، وقال له وهما يغادران: يبدو أن مديرنا العجوز أصيب بالخرف تماما، وعلق الحكيم قائلاً: سبحان الله.. لقد كنت أتوقع ذلك منذ فترة..!

(5)

زاد الهمس والغمز واللمز حول الطبيب أندريه راجين، وبدأ بالفعل يلاحظ نظرات الناس المتطفلة، وسلوكهم المختلف تجاهه، ومعاملتهم الحذرة والساخرة أحيانا، وذات يوم فوجئ الدكتور راجين برسالة من رئيس المدينة يدعوه فيها للإدارة من أجل مناقشة أمر هام، وعندما ذهب في الموعد المحدد، وجد عددا من المسؤولين ومعهم رجل بدين قدموه له على أنه طبيب المدينة المجاورة، وكان ماراً بالصدفة، لكن الرجل كان يتدخل في النقاش بتعليقات غير مهذبة، بل وقحة أيضاً، في شؤون المستشفى، وفي شؤون الدكتور راجين نفسه.

(6)

زادت وقاحة الطبيب البدين، فنقل الجلسة من حالة «النقاش غير المباشر» إلى «امتحان» رديء وفج، للكشف عن صحته العقلية، فقد فوجيء الدكتور راجين، بالطبيب الأشقر البدين يسأله: في أي شهر نحن؟، وأي يوم من أيام الأسبوع؟، وكم عدد أيام السنة؟، وكان يجيب بشكل طبيعي، حتى سأله أحدهم بسخرية واضحة: هل صحيح أن لديك «نبي» رائع في العنبر رقم 6؟. شعر راجين أن السؤال شديد السوقية والسخرية، لكنه أجاب باقتضاب وجهامة: إنه مريض، لكنه شاب ذكي ومثقف. وعند هذا الحد توقفت الأسئلة وانتهت الجلسة في جو من الغموض وعدم الراحة، وبينما كان راجين يرتدي معطفه لينصرف، وضع أحدهم يده على كتفه، وقال له وهو يتنهد بطريقة مفتعلة: إيييه.. لقد صرنا شيوخاً، وآن لنا أن نستريح..!

(7)

في طريق العودة إلى البيت استرجع راجين ما حدث في مبنى الإدارة، وتأكد أنها كانت لجنة للكشف على قواه العقلية، وتذكر الأسئلة الساذجة التي وجهوها له، ولأول مرة يشعر بالإهانة والغضب، وقال لنفسه بصوت مسموع: إن هؤلاء الجهلاء، الذين لا يفقهون شيئا في الأمراض النفسية، تعاملوا معي بخداع ووقاحة خالية من أي ذوق، والمحزن أن الأغبياء التافهين صارت لديهم الجرأة والسلطة، لامتحان المثقفين الشرفاء وتقرير مصيرهم، وفي هذه اللحظة تذكر راجين حديث إيفان جروموف عن الألم، وهز رأسه باستسلام، وشعر لأول مرة في حياته بالأسى والمرارة.

هذا عن الصدمة، لكن ماذا عن المصير؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف