الوطن
اسامة الازهرى
حتى لا تصير شظايا
عند غياب مقاصد الشرع الشريف فإن الأحكام الفقهية وعلوم الشريعة تتحول إلى شظايا، حيث إن كل مسألة فقهية مشدودة ومعلقة بعدد من المقاصد التى يريدها الشرع الشريف، ويأمر بها، ويغار عليها، ويسعى لتحقيقها، ومن تلك المقاصد: حفظ الأنفس وحفظ العقول وحفظ الدين وحفظ الأموال وحفظ الأعراض، ومنها أيضاً حفظ منظومة الأخلاق، وتحقيق العمران، وتقدير الحياة، وتحريك العقول للابتكار والاختراع، بحيث تصطف كل مسائل الفقه والشريعة فى ترتيب هرمى رفيع يتبين منه أن كل بحوث الشرع ومسائله توصل إلى مقصود كلى جليل يلخص الشرع كله، وهو مقصد الإحسان، كما قال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام.

فإذا انقطعت مسائل الفقه عن قواعدها الكلية ومقاصدها الكبرى، ولم ينجح الفقيه فى تبيين غاياتها، فإنها تنحرف فى أعين الناس لتصير معزولة عن غاياتها ومقاصدها، وتتحول من مسألة شرعية تنفتح فى وجوه الناس بالحكمة والرحمة وجلال الخطاب الإلهى واتساعه، لتتحول إلى فكرة جدلية منعدمة المنطقية، تلتبس على الأذهان، وتتحير فيها العقول، وتضيق بها الصدور، وإذا بها قد صارت شظايا فكرية، يتحول بها الشرع فى أعين الناس إلى إرهاق نفسى وعقلى، وعسر وعنت، فيثقل الشرع على الأنفس، وتضج منه، وتسوء الظنون بالوحى نفسه.

وقبل سبعمائة سنة من الزمان، قال شيخ السادة المالكية الإمام القرافى فى أوائل كتابه العظيم «الفروق»: (ومن جعل يخرّج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التى لا تتناهى)، إلى أن يقول: (ومن ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان).

ومقاصد الشريعة هى الغايات العليا التى تدور فى فلكها وتسعى لتحقيقها كل مسألة فقهية، بحيث تنبع تلك المسائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفق معايير دقيقة للاستنباط، وتُفضى عند تطبيقها إلى تحقيق تلك الأهداف، بحيث كلما أمعن الإنسان فى العمل بفرع من تلك الفروع أو مسألة من تلك المسائل وجد أنها تتدفّق به فى مسار يفضى به إلى الرحمة ورفع الحرج ووضوح الحكمة، فإذا بمسائل الفقه وفروعه قد حققت مقاصدها، ويرى الناس أمام أعينهم كيف أن هذا الدين رحمة ويسر.

وأنا أحب هنا أن أستعرض مقصداً واحداً من تلك المقاصد، وهو مقصد رفع الحرج، حيث قال الله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ» (البقرة الآية 185)، وقال أيضاً: «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ» (سورة المائدة الآية 6)، وقال سبحانه أيضاً: «هو اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (الحج الآية 78)، وقال سبحانه أيضاً: «يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ» (النساء الآية 28).

وقال النبى عليه الصلاة والسلام: (إن دين الله يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال أيضاً لأصحابه وأمته من بعده: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث وتطبيقات الفقهاء التى توسعوا فيها فى شرح هذا المقصد الجليل، وكيف نجده كامناً وراء كل مسألة فقهية أو فرع من فروع الشريعة.

وكل ذلك حتى يمكن للإنسان أن يؤدى الفرائض والتكاليف الشرعية الموقرة على نحو محفوف باللطف ورفع الحرج، وبناء منظومة الأخلاق، وشيوع السكينة والراحة فى الأنفس، حيث إن الله تعالى جعل هذا الدين رحمة وراحة، فمن جعله شقاءً وإرهاقاً للعقول والأنفس فقد أساء إساءة بالغة، فضلاً عمن يزعم أن هذا الدين قتل وتخريب وعدوان ورعب.

وقد دخل مرة رجل على الإمام الجليل أحمد بن حنبل، وفى يده كتاب فى اختلاف الفقهاء، فسأله أحمد: ما هذا الكتاب؟ فقال الرجل: هذا كتاب الخلاف، فقال أحمد: (لا تُسمه كتاب الخلاف، بل سمه كتاب السعة).

فتبين من هذه الكلمة كيف أن عقل الفقيه مدرك تماماً لمقصد هذه العلوم وغايتها، وأنها نابعة من عين اليُسر والسعة، ورفع الحرج، وأنها تُفضى إلى الإحسان، وكلما تصدى لشرحها الناس ربطها عندهم بمقاصدها وغاياتها، وبين لهم عللها وحكمتها، وما يترتب عليها، فتشرق تلك المسائل أمام أعينهم وعقولهم، وإلا فإنها تصير شظايا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف