بوابة الشروق
ابراهيم عوض
ارتسام تسوية فاشلة للقضية الفلسطينية
أقوال وتحركات واجتماعات وتسريبات أوحت للعديدين من متابعى الشئون العربية والإقليمية والدولية بأن ثمة خطة تعدّ للإسراع بتسوية القضية الفلسطينية. زيارة لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى العاصمة الأمريكية فور تولى رئيس الولايات المتحدة الجديد دونالد ترامب مسئوليات منصبه. ومؤتمر صحفى يعقده الرجلان تبدو خلاله ابتسامة الحبور بكل عرض وطول وجه نتنياهو، ويعلن فيه ترامب عن عدم تمسكه بحل الدولتين وترحيبه بحل الدولة الواحدة طالما قبله الطرفان.

صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تكشف عن أن قمة انعقدت فى فبراير من العام الماضى فى ميناء العقبة جمعت رئيس الجمهورية عبدالفتّاح السيسى مع العاهل الأردنى الملك عبدالله ورئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت، جون كيرى. ووزير إسرائيلى يقول إن مصر قد تتنازل عن مساحة من أرض سيناء تبلغ مئات الكيلومترات المربعة لتنشأ عليها ــ بالإضافة إلى قطاع غزة، ــ دولة فلسطينية.

أنباء أخرى عن أن دولة الفلسطينيين ستكون هى الأردن فى إعادة لإحياء الحلّ الأردنى، والمفترض أنه كان قد تلاشى تماما منذ أن أعلن الملك حسين فى سنة 1974 عن الرجوع عن ضم الضفة الغربية لنهر الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية. عندها أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، هى المسئولة عن الضفة وهو ما تأكد عندما تولت المسئولية عن إدارتها السلطة الوطنية الفلسطينية المنبثقة عن المنظمة فى أعقاب اتفاقية أوسلو المبرمة فى سنة 1993. ووزير الدفاع الإسرائيلى يعلن عن أن قوات اسرائيلية قصفت عناصر تنظيم إرهابى فى شمال سيناء دون أن يصدر تكذيب عن أى مصدر رسمى مصرى ذى حجية.

بالتوازى مع الأنباء عن العلاقات المتشابكة المصرية الفلسطينية الأردنية الإسرائيلية، فى أثناء زيارة نتنياهو لترامب، مباحثاتهما ثم تصريحاتهما فى المؤتمر الصحفى تكشف عن اتفاقهما على التواجه مع إيران واعتبارها الخطر الأعظم الذى يحيق بإسرائيل وبمصالح الولايات المتحدة. ونتنياهو يعلن عن «مبادرة» جديدة فى إقليم الشرق الأوسط، مبادرة تتفق مع تفاخره بعلاقاته الودية مع عدد من قادة الدول العربية ومع ما يعتبره مصلحة مشتركة لإسرائيل والدول العربية «السنِّية» فى التآلف ضد إيران. الدول العربية المعنية هى مصر والأردن وأعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. التآلف يحيل بدوره إلى ما يتردد عن «تحالف» عسكرى، على غرار حلف شمال الأطلسى، بين الدول المذكورة وإسرائيل لمواجهة إيران، أو للتحسب لها فى أحسن الظروف.

***

جليٌ مما تقدّم أن ما يشتمّه المراقبون من تسوية ترتسم للقضية الفلسطينية ليس محض خيال. وهم يجدون أن الخطة أو «المبادرة»، كما أسماها نتنياهو، تشمل أن يتفكك الصراع العربى مع إسرائيل ليحل محله صراع مع إيران. لا يفترض هذا المقال أن مصر ضالعةٌ فى هذه «المبادرة» أو موافقة عليها. ومع ذلك فإن التحليل واجب. إن كانت الخطوط العريضة «للمبادرة» التى يبشِّر رئيس الوزراء الإسرائيلى بها كما هى مرسومة أعلاه، فمن منظور مصرى خالص، أى مصلحة لمصر فيها؟

تمعّن فى الاحتجاج الشعبى على التنازل للملكة العربية السعودية عن جزيرتى تيران وصنافير، وقس عليه الرفض الذى سيقابل أى إعلان عن التنازل عن أى مساحة ولو كانت هزيلة من سيناء. أى سلطة مصرية تفكِّر فى ذلك تهزّ دعائمها هزّا عنيفا وتقوّضها من جذورها. الخوض فى تحليل آثار مثل هذا الإعلان لا مجال له لأن ردّ الفعل على تطبيقه سيكون فوريا وقاطعا، ولن يمكن أن تساعد على قبوله الأزمة الاقتصادية التى يعانى منها المواطنون وسراب الرخاء الذى يمكن أن يترتب على «المبادرة». المصريون يتذكرون «مبادرة» أخرى منذ أربعين عاما لم تثمر الرخاء الذى وعدوا أنها ستنزله عليهم!

على المستوى الفلسطينى، تَوَقُّعُ أن الشعب الفلسطينى يمكن أن يقبل بأى من الحلول المتصوَّرة، السينائى أو الأردنى أو الدولة الواحدة اليهودية التى تسودها إسرائيل، هو ضرب من الخيال والاستهزاء. الحق هو أن هذا العنصر فى «المبادرة» يستعصى على الفهم. الصحافة الرسمية المصرية نشرت أنباء زيارة وفد «حماس»، الذى ضمّ اسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسى للحركة، للقاهرة فى الأسبوع الماضى واحتفت بالتفاهمات التى توصّل إليها مع السلطات المصرية وهى كادت تشيد بشعور «حماس» بالمسئولية وبوطنيتها! «حماس» هى الطرف «المتشدد» بين الفاعلين الفلسطينيين، فكيف يمكن أن يقبل بأى من الحلول الثلاثة؟ أم هل أن إصلاح ذات البين مع «حماس» يهدف إلى ممارسة الضغط على السلطة فى رام الله وحملها هى ورئيسها محمود عبّاس على القبول بشروط «المبادرة» وبالتالى إضفاء الشرعية عليها؟ هذا وهمٌ. حتى إن قبلت السلطة فإن قبولها ليس ذا قيمة، فالسلطة قد فقدت تأثيرها على الفلسطينيين فى الضفة الغربية وهم لن يقبلوا بما قد تقبل به هى. ومن نافلة القول أن الشرعية لن تتحقق للحلّ الذى تأتى به «المبادرة» إن حاولت قوات الاحتلال الإسرائيلية فرضه بالقوة.

على مستوى إسرائيل نفسها، من قال إن حلّ الدولة الواحدة، الغالى على نتنياهو وعلى اليمين والمستوطنين، مقبولٌ من جميع القوى السياسية الإسرائيلية؟ الدولة الواحدة، قبِل نتنياهو أو لم يقبل، ستنهزم فيها الفكرة الصهيونية، وهو ما تريد اتجاهات صهيونية أخرى تفاديه عن طريق حلّ الدولتين، حيث يتركز العرب فى سكنى الدولة الفلسطينية الجديدة. الدولة الواحدة لا حياة للصهيونية فيها إلّا بممارسة مستمرة للقوة عن طريق التمييز والفصل العنصرى، «الأبرتايد»، وهذه ممارسة ذات ثمن باهظ جدا فى السياسة الدولية من شأنها أن تجعل اسرائيل تفقد من جديد كل الأرضية التى استعادتها منذ اتفاقيتى كامب ديفيد ومن بعدها أوسلو، إسرائيل التى كانت علاقاتها الدولية قد أصابها إصابات بالغة احتلالَها للأراضى العربية فى سنة 1967. نجاح تصور نتنياهو ليس مضمونا فى اسرائيل نفسها.

***

أما عن إحلال الصراع مع إيران محل الصراع مع اسرائيل، والذى كان هدف إسرائيل منذ الثورة الإيرانية، فهو يستدعى أكثر من تعليق. هذا الإحلال يستمدّ منطقه عند نتنياهو من التهديد الإيرانى الذى تشعر به دول الخليج، وهو يستند إلى أن المملكة العربية السعودية تعتبر بالفعل أن إيران تمثل تهديدا شبه وجودى لها ولبقية الخليج وأن السبيل إلى التصدى لهذا التهديد هو بمواجهة إيران، ما دفع بالسعودية إلى أن تكون ثانى أكبر مشتر للسلاح فى العالم فى سنة 2016 والإمارات لأن تكون الرابعة. ولكن هل كل دول الخليج موافقة على رأى السعودية بشأن تهديد إيران وأسلوب مواجهته؟ عُمان والكويت ليستا موافقتين عليه وهما تمدّان جسور التواصل مع إيران واستقبلتا فى الأسبوع الماضى الرئيس الإيرانى حسن روحانى. فكرة الجبهة «السنّية» التى تضمّ كل دول مجلس التعاون، إلى مصر والأردن، فى مواجهة إيران هى بالتالى، بدورها، وهمٌ. ولكن فكرة الجبهة «السنّية» هى فى الأصل سبّةٌ. مصر التى اشتركت فى إنشاء الأمم المتحدة، منظمة للإنسانية، تتأرجح بعد ذلك بين أن تكون دولة عربية أو إسلامية، ثم ينتهى بها الأمر إلى أن تهبط إلى مستوى الدولة المذهبية؟! ثم دعك من هذا وذاك. أى مصلحة لمصر فى التواجه مع إيران؟ النظام السياسى الإيرانى نظام يستغلّ الدين فى الحكم ويقيِّد حريات الإيرانيين ومشاركتهم فى حكم بلادهم وهو لكل هذه الأسباب غير مقبول كنموذج للحكم. ولكن هل معنى ذلك مخاصمته هو وإيران؟ حجة أن السبب فى ذلك تهديده لدول الخليج مردود عليها بأن من بين هذه الدول من يتواصل معه بل ويقدم نفسه أرضا يلتقى فيها النظام الإيرانى مع القوى الدولية الكبرى، وهى حالة عمان. هل تكون مصر أكثر خليجية من الخليج؟ ثم كيف يمكن أن تخاصم مصر إيران بينما هى تقيم علاقات ودية، فى محلها تماما، مع العراق، مع ما هو معروف من صلات وثيقة بين العراق وإيران؟

لكل ما تقدّم، يبدو التحالف العسكرى بين اسرائيل والجبهة «السنّية» فكرة تعدم أى أساس سياسى أو فكرى، فضلا عن الأخلاقى. عدم الانضمام إلى الأحلاف العسكرية راسخ فى السلوك والفكر السياسى المصرى ليس فقط منذ مقاومة حلف بغداد فى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، بل منذ ما قبل ثورة سنة 1952، منذ العهد الملكى. عنفٌ ما بعده عنفٌ فى حق الذات مجرد الاستماع إلى مثل هذا الجانب فى «مبادرة» نتانياهو. العزاء هو أن المبادرة فاشلة لا محالة.

شعوب المنطقة العربية والشرق الأوسط تتوق إلى السلام. هى لا تريد نزاعات ولا حروبا. ولكن السلام لا ينشأ إلا بالحق والعدل. كما أن نتنياهو يجد فى ترامب فرصة لفرض «مبادرته» العدوانية الخبيثة، فإن لدعاة الحق والعدل أنصارا عديدين حول العالم.

حسن السياسة فى تجميع هؤلاء الأنصار لمساندة تسوية ناجحة للقضية الفلسطينية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف