الوطن
على السلمى
مصر غنية.. ولكن! (2 - 2)
مصر غنية بمواردها الطبيعية وبموقعها المتميز وبتاريخها وحضارتها الممتدة عبر آلاف السنوات، ومصر غنية بالمصريين الذين أثبتوا على مدى التاريخ وحتى الآن اعتزازهم بمصريتهم وتمسكهم بوطنهم مهما جارت عليهم قوى الاحتلال الأجنبى أو سلطة أهل الحكم، والمصريون يثبتون عملياً قول الشاعر «بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة... وأهلى وإن ضنوا علىَّ كرامُ»!

ولكن، وكما أوضحنا فى مقال الأسبوع الماضى، تعانى مصر فى الماضى كما فى الوقت الحالى من سوء إدارة تلك الموارد وفى مقدمتها المورد البشرى وهو عماد التنمية المستدامة والحقيقية.

ونعرض اليوم لأهمية تحويل موارد مصر من حالة الإهدار والضياع إلى الاستثمار المنتج للقيمة المضافة بما يحقق للمصريين المستوى اللائق من الحياة والتقدم والازدهار الإنسانى.

وبداية لا بد من تحديث الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية فى مجالات الزراعة، الصناعة، السياحة، الخدمات المالية، خدمات النقل، والتجارة ونظم التداول بأساليب عصرية وغير تقليدية تعتمد فى الأساس على القطاعات غير الحكومية من القطاع الخاص والقطاع الأهلى، وكما قال المبدع صاحب نوبل نجيب محفوظ إن «آفة حارتنا النسيان»، فإن آفة مصر كلها «الجهاز الإدارى للدولة» غير الكفء الذى وصفه الرئيس السيسى بالبيروقراطية وعدم الكفاءة، فضلاً عن الفساد وذلك فى معرض حديثه يوم افتتاح مشروع زراعة عشرة آلاف فدان قمحاً فى الفرافرة وبناء آلاف المساكن وأماكن الخدمات فى شهور قليلة، وقال الرئيس يومها إنه لو اعتمد فى تنفيذ هذا المشروع وغيره على الجهاز الإدارى للدولة لكان يستغرق سنوات طوالاً وتكلف أموالاً طائلة ولم تتحقق آثاره بالكفاءة والنزاهة المطلوبة.

وتبدأ مهام تحديث أساليب استثمار وإدارة موارد مصر بالتحديث العمرانى وتنمية المجتمعات العمرانية الجديدة، والتوسع فى استثمار مساحات متزايدة من الأرض المصرية بزيادة المعمور منها، وإقامة التجمعات البشرية المتكاملة. ونشير فى هذا المقام إلى مجهود علمى رائع قامت به مجموعة من علماء وخبراء مصر هو «المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية العمرانية» الذى قامت الهيئة العامة للتخطيط العمرانى بإعداده -بتكليف من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية- والهادف إلى تحقيق التنمية والانتشار المكانى حتى عام (2052)، إذ بدأ ذلك الجهد فى 2009 واستمر على مدى عامين بقيادة الدكتور فتحى البرادعى وزير التعمير والإسكان الأسبق بمشاركة خبراء الهيئة وبالتعاون مع الوزارات والهيئات المعنية بالتخطيط والتنمية فى كل مجالاتها ولفيف من الخبراء والإخصائيين على إعداد هذا المخطط وطرحه للنقاش وتبادل الرأى فى عدة ندوات واجتماعات وورش عمل دعى إليها جميع الأطراف الحكومية وغير الحكومية ذات الصلة، وقد أسفرت هذه الجهود العلمية الشاملة والمكثفة عن إعداد تقرير شامل لكافة جوانب وأبعاد المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية العمرانية تم عرضه على مجلس الوزراء فى شهر يونيو 2011 الذى أوصى بعرضه على أوسع نطاق ممكن حتى يحظى بتأييد مجتمعى كامل قبل إصداره فى صورته النهائية، وقد اشتمل المخطط على محور أول تم فيه استعراض شامل للحالة المصرية بالتساؤل عن أين نحن الآن؟ وشمل رصد الوضع الحالى من حيث الخصوصية المصرية، ووصف الحيز المعمور الحالى، والإدارة الحالية للتنمية، والطريق إلى المستقبل، ثم كان المحور الثانى فى المخطط بتحديد الهدف الذى نسعى إليه؟ ويشمل الرؤى التنموية، وأهداف التنمية. أما المحور الثالث فقد تعامل مع كيفية تحقيق الهدف؟ ويشمل التنمية الاقتصادية، والتنمية البشرية، والمقومات الأساسية للتنمية، والتنمية المكانية والأقاليم التخطيطية، وإدارة التنمية، وقد كان من مميزات هذا المخطط اعتبار مصر بكامل مسطحها الجغرافى وحدة مكانية تنموية واحـدة بدلتاها وصعيدها، بحضرها وريفها، بحيزها المعمور الحالى وحيزها الخالى فى الصحراوات والسواحل.

وكان اهتمام المخطط كبيراً برصد حالة الموارد الحاكمة التى تعانى مصر فيها من ندرة فى عنصرين حاكمين لا غنى عنهما للتنمية وهما المياه والطاقة، حيث إن الموارد المائية فى مصر شبه ثابتة، كما أن مصر دخلت نطاق الفقر المائى مما يمثل تحدياً خطيراً لها فى حاضرها ومستقبلها، أما بالنسبة للطاقة فهى أحد العناصر الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة، كما أن تغطية احتياجات التنمية فى الحيز الجديد وكذلك فى الحيز الحالى، تستلزم توفير مصادر للطاقة الجديدة والمتجددة، التى تشمل أساساً الطاقة النووية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما يجب رفع احتياطى الطاقة التقليدية مع ترشيد الاستهلاك.

وقد انتهى المخطط الاستراتيجى إلى مجموعة من المقترحات تخص المرحلة العشرية الأولى 2013-2022 وتشمل: إنشاء النظام المؤسسى والإدارى القادر على تخطيط وتنفيذ ومتابعة برامج التنمية على المستوى القومى والإقليمى والمحلى، وإرساء أسس الديمقراطية والمشاركة الشعبية واللامركزية فى الإدارة والحكم، واستكمال بناء مقومات الدولة المعاصرة، وبدء تنفيذ المراحل الأولى فى التنمية الاقتصادية، وتطوير النشاط الإنتاجى باستخدام التقنيات المتقدمة الحديثة، والبدء فى بناء دعائم اقتصاد المعرفة، والبدء فى تنمية الأقاليم وتنفيذ المشروعات ذات الأولوية فى الحيز الجديد، وتشجيع الانتقال السكانى إلى محاور التنمية الجديدة، وإنشاء المستقرات وتوفير الخدمات اللازمة لهم، وتحقيق الإدارة الرشيدة فى استخدامات الأراضى، وفى استخدامات الموارد الحاكمة مثل المياه والطاقة، والتوسع فى توفير موارد مائية جديدة وطاقة جديدة ومتجددة بما يكفى مشروعات التنمية، وإتمام المراحل الأولى فى تنفيذ شبكات النقل الرئيسة المحورية والشبكات المحلية داخل كل إقليم، وتحقيق الاستقرار الاجتماعى والعدالة الاجتماعية والتقارب بين شرائح المجتمع، وإلغاء حدّة التفاوت بينها، وتحقيق التنمية البشرية، وذلك بتوفير الخدمات الأساسية للفرد والأسرة والمجتمع، والقضاء على الأمية والوصول بنسبة البطالة إلى حدّها الأدنى، والعمل على مضاعفة الدخل القومى، وزيادة دخل الفرد، والوصول بنسبة الشرائح تحت خط الفقر إلى أدنى حد ممكن.

مما سبق يتضح أنه كان مخططاً فى تلك المرحلة العشرية الأولى التخلص التام من السلبيات التى تعوق تقدم المجتمع، ثم تهيئته للانطلاق ومشاركة المجتمعات المتقدمة فى الأخذ بأسباب الحياة الحديثة فى جميع مجالاتها، والمشاركة فى بناء الحضارة المعاصرة والتقدم الإنسانى، كما سوف يتم فى هذه الفترة تنفيذ المراحل الأولى من مشروع مصر التاريخى الكبير؛ وهو الخروج من الحيز العمرانى الضيق الحالى إلى الآفاق الواسعة الجديدة فى صحراوات مصر وسواحلها.

ولكن وآه من لكن هذه، لم يجد ذلك المخطط الاستراتيجى من يهتم بتنفيذه وصعوبة تكرار الجهد الذى بذل فى إعداده، رغم شدة الاحتياج إليه ولتجنب الدخول فى مشروعات «عملاقة» لم تتح فرصة كافية لدراستها والتأكد من جدواها، فضلاً عن متطلبات تكاملها ضمن مخطط تنموى شامل! والغريب أن وزير التعمير والإسكان الحالى د. مصطفى مدبولى كان له دور محورى فى إنتاج ذلك المخطط باعتباره كان رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمرانى!!!

مصر غنية ولكن مرة أخرى ينقصها توحيد الأمة فى كيان منسجم ومتعاون ومتصالح مع نفسه، حيث يدرك الجميع أنهم فى قارب واحد ومصيرهم مرتبط معاً، يعيشون فى تناغم وشراكة كاملة. كذلك تفتقر إلى منظومة وطنية متكاملة للبحث العلمى والتطوير التقنى تستثمر المتاح من عقول وقدرات العلماء والباحثين المصريين فى الداخل والخارج. كما تفتقر مصر لنهضة شاملة فى منظومة التعليم المصرية على كافة المستويات تتوافر فيها معايير الجودة ومتطلبات الاعتماد الدولية، وترقى إلى مصاف المنظومات التعليمية العالمية.

والأمل أن يلقى ملف التخطيط الاستراتيجى لاستثمار موارد الوطن عناية الحكومة «المعدلة» ويتم إحياء المخطط الاستراتيجى للتنمية العمرانية!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف