محمد الرميحى
واجب إعادة النظر فى المصفوفة الفقهية!
الكويت من الدول العربية التي تعمل في الفضاء العام بموجب دستور حديث، ضمن للمواطن مساحة واسعة من الحقوق ورتبت عليه واجبات، ومن الدول والمجتمعات التي شاركت المواطنين بتوزيع عادل للثروة الوطنية، كما لديه مجلس نيابي منتخب، تضمن قواعده الداخلية ان يناقش العضو بحرية ما يراه في الشأن العام، والمجتمع الكويتي في غالبيته مسلم، وككل بلاد المسلمين تكثر فيها الجوامع لأداء فرائض الإسلام، كما أن دستور الكويت من مرجعياته الأساسية العروبة والإسلام ، ومع ذلك يأتي أحد الأشخاص في الأسابيع الماضية ليثير جدلا قديما جديدا هو تغيير نص في الدستور الكويتي إلي أن تكون المرجعية في التشريع كاملة للشريعة!. من حيث المبدأ لا اعتراض علي أن يدلي عضو ما في مجلس الأمة الكويتي بما يراه، أكان حقا أو باطلا، فذلك تقديره وحكم زملائه علي ما يعرض، ولكن المشكلة تكمن في قابلية الطرح المتعلق بالشريعة، أيا كانت تفسيراتها، بجلب آخرين من المتعاطفين أو المتخوفين من الاتهام في دينهم، والعياذ بالله، لمسايرة ذلك الاقتراح! وإدخال المجتمع في جزئية يتردد كثيرون من المساس بها لحساسيتها المفرطة.
ولكن بسبب تاريخ من الحريات في الكويت فان بعض القوي السياسية الكويتية، قد ناهضت ذلك التوجه علنا، وفي تقديري لن تتاح لمشروع الاقتراح حتي القبول للنقاش العام في المجلس المنتخب نفسه. ولكن وهي لكن كبيرة القضية ليست هنا، القضية الكبري التي تهم المجتمع الكويتي كما تهم المجتمع العربي وربما المجتمع المسلم، هي ذلك المنحي من استخدام الدين في السياسة بمدخلات مختلفة، وهو منحي عاناه الكثير من المجتمعات العربية علي امتداد قرن من الزمان تقريبا، وسوف تعانيه أيضا في حال تجاهل مظاهره وعدم مناقشتها مناقشة علمية وعقلانية مستنيرة.
الفكرة الأساس التي يروج لها ذلك البعض (المستخدم للدين في السياسة) أن المجتمعات العربية تعاني باثولوجيا اجتماعية، علي رأي المفكر الفرنسي دوركايم، وأن معالجة تلك الأمراض التي أفرزت اضطرابا خطيرا في المجتمعات وأدت الي عذابات اجتماعية كبري، أساسها (غياب تطبيق الشريعة)! تلك المقولة التي قد يستحسنها البعض هي خاطئة من أساسها، فالمشكلات التي تواجه شعوب إسلامية وعربية هي ناتجة من سياسات غير حصيفة اتخذت فترة طويلة أساسها (في نظري علي الأقل) غياب الحريات، وضعف المؤسسات، وما يتفرع من كل ذلك من سلبيات. الواقع ان الدين بمعناه العام و الإنساني، بعيدا عن الاستخدام السلبي، أن وجدنا المصفوفة الفقهية التي تعني بمقاصد الدين (أي دين) وقد استخدمت المصفوفات التفسيرية ذات التوجه السلبي للأديان في عصور مختلفة وفي أديان مختلفة ، لإشاعة الكراهية بين بني البشر، وإشعال الحروب والنزعات. القضية هنا ليست في المبادئ العامة للدين، ولكن في مصفوفة التفسير الديني، او ما نسميه في ثقافتنا الفقه، وهو تفسير للنصوص يقوم به بشر لخدمة مقاصد دنيوية كثير منها ضيق الأفق والفهم! خذ مثلا المصفوفة التي تنتقيها جماعة مثل داعش، هي تنتقي بعض النصوص و تخلعها من سياقها اللفظي والتاريخي، كي تسقطها بعشوائية علي مظاهر اجتماعية سياسية في عصرنا الحاضر، لا يمكن لعاقل أن يدعي أن تلك النصوص غير موجودة، ولكن العقل يحتم القول ان تلك النصوص مجتزأة من سياقها، وتطلق طاقتها التدميرية بغير حسيب أو رقيب علي المجتمع، وتخلف ما نراه من قبح وفساد وقتل واستباحة، لا يصيب المجتمع العربي الإسلامي فقط، بل يتعداه الي مجتمعات أخري تسارع هي إلي التعميم السلبي علي المسلمين جميعا.
في المقابل هناك عشرات القوانين في بلاد عربية كثيرة، أكاد أقول كلها، مستندة علي مبادئ الشريعة الإسلامية الإيجابية والعقلانية والتوائمية، ومن المعروف اليوم لدي المتخصصين ان كثيرا من قواعد النظام الفرنسي القانوني مستمدة من المبادئ المتسامحة لشريعة محمد (صلي الله عليه وسلم)، وفي المقابل أن بلاد المسلمين والعرب ترتفع فيها المآذن وتقام فيها الممارسة الإسلامية باجتهاداتها الجزئية المختلفة، استخدام الدين في السياسة له العديد من المسببات، ربما المح ثلاثة أسباب رئيسية، الأولي هو نقص في إشاعة العدل، وهو عمل إنساني، يمكن ان يمارس حتي في بلاد ترفع شعارات تطبيق الشريعة، والثاني قادم من الجهل ،وهو الأخطر، وهذا الجهل الذي أشيع ويشاع في مدارسنا ووسائلنا الإعلامية، وزاده عمقا وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ،التي تتطاير منها النصائح المضللة والأفكار السلبية القائمة أساسا علي الخرافات و الخزعبلات، أما الأكثر خطورة فهو التكسب السياسي الذي استخدم ومازال يستخدم بعض الشعارات الدينية من أجل الحصول علي مكاسب سياسية، وقد كان ناجحا في بعض فضائنا العربي، ولكنه نجح إلي حين، بوسيلة القمع والإكراه لا الإقناع، أما القائم منه في بعض بلادنا العربية والإسلامية فقد ثبت بالتجربة والقطع فشله وتضليله، ولم يقدم للشعوب التي تسلط عليها الا القمع والفقر!.
ما أردت أن أصل إليه هو أننا بحاجة إلي مصفوفة فقهية تساير العصر، وتقدم حلولا عقلانية للمشكلات التي تواجه شعوبنا وتستجيب إلي المطالب المستجدة، إلا أن أولي الخطوات هي نقد موضوعي وعقلاني للمصفوفة السائدة اليوم من المتشددين، القادمة من إفرازات الصراع في القرن العشرين، قرن مقارعة الاستعمار وهم في نظري ليس من يحمل السلاح ويقطع الرقاب ويقتل الجنود ويروع الامنين، بل هم أيضا الدائرة الاوسع، الذين يُسمون اليوم أنهم أكثرية في (وعاظ الفضائيات والأنترنت) ومستخدمي الشعارات لتضليل الناس! هؤلاء يبدأون بإيهام الناس انهم (لا يعيشون في مجتمع مسلم)!وأن الإسلام هو فهمهُم فقط ولا مساحة لغيرهم، طبعا يجد مثل هؤلاء مستمعين بسبب ضغوط حياتية أو سياسية او هجوم مذهبي من دول وجماعات أخري، كل ذلك لا يعفينا من المطالبة بالمصفوفة العقلانية الفقهية الحديثة، التي توازن بين مطالب الدنيا والدين. لقد قام نفر من المفكرين العرب بمثل تلك المحاولات، إلا أنها كانت فردية ولم تكن مؤسسية، يحضرني العمل المؤسسي الذي تم في الكويت، وكان نتاج مجهودات عربية وإنسانية واسعة، هو الموسوعة الفقهية الموحدة، التي أصدرتها وزارة الأوقاف الكويتية، وهي متاحة علي الشبكة العنكبوتية العالمية، كما هي قد وزعت علي العديد من المكتبات العربية والدولية، لا أقول إنها عمل متكامل ولكن أري أنها أساس لا غني عنه لبناء تلك المصفوفة الحضارية المطلوبة، يري البعض، وأنا أخالفه، أنه بمقدور الشعوب العربية المسلمة أن تستغني عن ذلك التراث ،وتدخل فيما يعرف بـ(العلمانية الحديثة) أري ان ذلك دعوة للانفصال عن القواعد الثابتة للثقافة العربية الإسلامية، إلا أن التفكير في مصفوفة حضارية إسلامية تتواءم مع مطالب العصر من جهة، والجهر بمواقف نقدية واضحة لمن يريد التضليل في هذا المقام، عمليتان متكاملتان، ليس مناطا بتنشيطهما الأفراد والنخب فقط ،ولكن الدولة العربية من خلال مؤسسات، لإنقاذ أنفسنا من هذه الحالة المرضية التي تكاد أن تأكل الأخضر واليابس َ