المصرى اليوم
أحمد الشهاوى
الأجلاف فى مصر «المحروثة»
لا يمر وقت طويل حتى يخرج علينا سلفيون من المفترض أنهم مسلمون، وقد قرأوا القرآن والسُّنَّة الصحيحة (لا المغلوطة المزعومة المحرَّفة الموضوعة)، ويقرِّرون لنا قوانين العيش تحت سقف سماء مصر للأقباط باعتبارهم أغيارًا أو آخرين أو ضيوفًا، ومن ثم لابد من «قوانين للضيافة» كما تفعل الدول الأخرى مع المهاجرين أو الوافدين إليها، وهم - السلفيون - لهم أن يسمحوا أو لا يسمحوا، طبقا لرؤاهم التى صاغوها فى صورة تعاليم أو قوانين أو تشريعات أو مبادئ أساسية للعيش فى مصر، التى لم تعد محروسةً بل محروثة سلبًا بسبب هؤلاء الأجلاف فكرًا وسلوكًا، وما إن تحين الفرص- خُصوصًا فى مناسبات الأقباط- حتى يعاودوا إذاعة مطالبهم البعيدة عن الدين والذوق والعقل، ولو أننى أحكم هذا البلد لحاكمتُ أصحاب الأفكار الشاذة والغريبة، فنحن نرى كثيرين ممن يعملون بالدين، يفعلون الكوارث بأغلاطهم وفتاواهم الجاهلة، ولا أحد يقترب منهم، لأنهم وتابعيهم وضعوا أنفسهم فى مراتب الأنبياء والرسل المعصومين.

فليس السلفيون أو سواهم من يفتحون الباب لأحد، إذ الباب مفتوح لمن يطلب العيش المشترك على أرضٍ هو صاحبها وجزء منها، ولا لأحد فضل على آخر بسبب دينه أو معتقده، والكل سواء أمام ربه وقانون البلاد التى يعيش فيها، وليس لسلفيٍّ أو مُتوهبٍ (من الوهابية) أن يفرض سيطرته على من لا يوافقه أو يماثله الدين والمعتقد والمذهب، ودومًا ما أقول: اتق شر المستبد إذا حكم، أيًّا كان تياره أو انتماؤه، إذْ هو جاء ليحكم ويورِّث الحكم لمن سيأتى بعده من الفئة نفسها، كأنَّ الاستبداد سيبقى طويلاً فى هذا البلد، وقد كُتبَ عليه.

فالذى يراه السلفيون آخر فى مصر وغريبًا أو ضيفًا هو- بالفعل- سيدٌ بين أهله، وهؤلاء فى عقيدتهم لا يعرفون السماحة أو التسامح أو السماح، مع أن الدين القويم يحضُّ عليها، ويطلبها ممن يعتقد فى ذلك الدين ويؤمن به، إذ السَّماحُ رَباحٌ، أَى المُساهلة فى الأَشياء تُرْبِحُ صاحبَها، مثلما جاء فى الحديث، والنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى).

وألم يرد عليُّ بن أبى طالب على سعد بن عبادة (توفى نحو 14 هـجرية / 635 ميلادية) حين قال يوم فتح مكة (اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة) فعارضه عليٌّ قائلا: (اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة..)، لأن من أسلم ومن لم يسلم خُلق من نفس واحدة، والدين لا يُفرضُ على أحدٍ بالقوة، فكل حرّ وله شأنه وحريته فيما يعتقد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ «1- النساء»، فهل يلتزم السلفيون بمقتضيات التسامح التى قرَّرها الدين الذى يدينون به؟

ولعل الآية القرآنية من سورة هود ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، لهى أبلغ ردٍّ يمكن للمرء أن يحمله عندما يجادل سلفيًّا، وبالطبع سيجادله بالكلمة، وليس بالسوط، أو الصوت المرتفع، أو السيف أو الإكراه، بل بالتى هى أحسن.

ويبدو أننا سنظل طويلا فى نقاش مسألة التسامح هذه، فكنت أظن أنها استوفت حقها من الطرح والجدل منذ أن قال جمال الدين الأفغانى (1838 – 1897 ميلادية) فى نهاية القرن التاسع عشر فى مجلته «العروة الوثقى»: «لا جنسية للمسلمين إلا فى دينهم»، وبعدها بقليل كتب فى المجلة نفسها: «علمنا وعلم العقلاء أجمعين أنّ المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلّا فى دينهم واعتقادهم»، وتلقَّى ردودًا كثيرة من أحمد لطفى السيد ( 15 من يناير ١٨٧٢- ٥ من مارس ١٩٦٣ ميلادية) ورفاقه، منها مقال لطفى السيد الشهير «التسامح فى الإسلام»، فهل علينا أن نعيد من جديد ما قُتل درسًا وبحثًا، أم أن الزمان تغير، وصرنا نعيش رِدَّة حقيقية وكبيرة فى النظر إلى (الآخر) المختلف معنا؟، ربما لأن التشدُّد زاد، وانتشر التخلُّف، وعمَّت الرجعية، وانعدمت الرحمة، وغطَّت الرمال الأرض السواد، وعاد الأجلاف «يفتحون» مصر «الكافرة الجاهلية» التى فيها بشرٌ ليسوا على دين محمد، وبشرٌ آخرون ليسوا على المذهب السنى.

أستطيع الآن أن أضع هنا عشرات الشواهد من القرآن والسنة، ومئات الحوادث والمواقف التى تدل على التسامح فى الإسلام، ولن يتعظ أو يرتدع سلفى أو مُتشدِّد من أى تيارٍ أو أى جماعة، ولكننى فقط سأثبت هنا ما قاله النبى محمد، لعل عقولهم تنفتح، وتقبل ما قاله نبيٌّ، وليس ما كتبته وأكتبه أنا: (مَن ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف