الأهرام
عبد العليم محمد
أوروبا - العالم العربى بعد «ترامب»
بدخول «ترامب» إلى البيت الأبيض، دخل العالم بأسره فى دائرة من الغموض والمجهول، دخل فى لحظة ملؤها القلق والترقب والمخاوف والهواجس، ولم تقتصر هذه المخاوف والهواجس على منطقة بعينها دون أخرى، بل امتد تأثيرها إلى جميع المناطق والتجمعات الإقليمية والدولية.

فى الشرق الأوسط والخليج العربى تتركز المخاوف حول مصير العملية السياسية لتسوية الصراع العربى والفلسطينى الإسرائيلى، وضمانات الدفاع الأمريكية عن أمن ودول الخليج فى مواجهة الأطماع الإقليمية، والتداعيات المترتبة على احتمال موافقة الرئيس الأمريكى على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة والإضرار بحل الدولتين المستقر عربيا وعالميا، وحمل دول الخليج على دفع نفقات الدفاع عنها، وبالرغم من هذه المخاوف فإن هناك ترقبا عربيا لم يصاحبه سعى دؤوب لصياغة علاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، تبدد هذه المخاوف وتقلص من تأثيرها، أو فى حالة وقوعها بناء بدائل وتحالفات وتصورات جديدة لملء هذا الفراغ.

وبالرغم من صعوبة التحديات التى تواجهها المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط المتمثلة فى الإرهاب وسقوط وتآكل الدولة الوطنية ومصير القضية الفلسطينية، فإن مواجهة هذه التحديات لا يمكن أن تتم بمعزل عن مشاركة الدول العربية المعنية فى أى جهد أمريكى ودولى خاصة إذا ما استهدف هذا الجهد صياغة حلول ناجعة ومقبولة لهذه التحديات.

أوروبا والاتحاد الأوروبى لا ينأى كثيرا عن هذه المخاوف والهواجس، ذلك أن الاتحاد الأوروبى منذ نشأته ومرورا بتوسعه شرق أوروبا وتقرير العملة الموحدة الأوروبية «اليورو» وحتى الآن لم يتمكن من بلورة سياسة خارجية أوروبية موحدة إزاء القضايا الدولية المختلفة، بل ظلت السياسة الخارجية القطرية هى أساس التوجهات الخارجية الأوروبية خاصة بالنسبة للقوى الأوروبية الكبرى كألمانيا وفرنسا، كذلك لم يتمكن الاتحاد الأوروبى من بلورة سياسة دفاعية أمنية موحدة ومتكاملة تمكن أوروبا من الاعتماد الذاتى فى مجالى الدفاع والأمن، وانتهت جميع المحاولات الألمانية الفرنسية فى هذا المجال إلى الوقوف عند مستوى الرمز لا أكثر.

أصبح الاتحاد الأوروبى القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بيد أن هذه القوة الاقتصادية لم تترجم بعد إلى قوة دفاعية وسياسية بمقدورها أن تضع الاتحاد الأوروبى فى مكانة «القطب» الدولى أو موقع الندية فى الساحة الدولية، إذا ما استثنينا النفوذ الأوروبى التاريخى فى القارة الإفريقية.

المفارقة المهمة فى هذا الصدد أن «دونالد ترامب» يمثل فى الواقع، التطور الطبيعى والأقصى للظواهر السياسية التى نشأت فى أوروبا، أى ظاهرة «الشعبوية» والعنصرية واليمين المتطرف فى العديد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها من الدول الأوروبية، تلك الظواهر التى تضع الغرباء والمسلمين على نحو خاص فى مكانة الدخلاء على الهوية الأوروبية والثقافة الأوروبية تحت شعار «الأولوية الوطنية».

والحال أن الأوروبيين وأوروبا تبدو فى هذه اللحظة ومنذ صعود «ترامب» كما لو كانت فى مواجهة مع ذاتها، ذلك أن الظواهر التى سلفت الإشارة إليها أى العنصرية واليمين المتطرف والشعبوية، لاتزال تشق مجراها فى الحياة السياسية والفكرية الأوروبية بل تزداد وتيرة نموها وصعودها، لأن هذه الحركات فى أغلبها تمجد الوطنية والدولة القومية وترفض السيادة العابرة للحدود والأوطان، وتريد الاحتفاظ بالدولة الوطنية القومية، وتضيق ذرعا بالمفوضية الأوروبية فى «بروكسل» والتى لا تمثل فى نظر هذه الجماعات والحركات سوى أقلية بيروقراطية معزولة عن معاناة المواطن الأوروبى وليست مهتمة بالمخاطر التى تحيط بالهوية الأوروبية,.

ومن ثم فإن هذه الظواهر والحركات وقادتها ومريدوها يلتقون مع «دونالد ترامب» الذى يرفع شعار «أمريكا أولا وأمريكا أولا» ويناهض التجمعات السياسية والاقتصادية ويعادى المهاجرين والمسلمين «المتطرفين» وينحو نحو العزلة وبناء الحواجز حول الحدود، ومن هذا المنطلق فإن «ترامب» شجع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ويؤيد «مارين لوبن» مرشحة اليمين المتطرف فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية وغيرها من دعاة الانفصال عن الاتحاد الأوروبى.

يضاف إلى ذلك أن «ترامب» صرح أكثر من مرة أن «حلف الأطلسى» الذى أمن حماية أوروبا طيلة عقود الحرب الباردة، وما بعدها، قد «عفى عليه الزمن» وأن على الشركاء الأوروبيين فى الحلف تعويض أمريكا عن حمايتها لهم وأن يساهموا فى دفع تكاليف هذه الحماية، وبالرغم من أن هذه التصريحات تبدو حتى الآن متباينة ولم تترجم فى قرارات تنفيذية، إلا أنها فيما يبدو لاتزال قيد البحث. والدراسة من قبل الخبراء والمحللين الاستراتيجيين فى فريق «ترامب» الرئاسى، وموضوعا للخلاف بين أركان إدارة الرئيس الأمريكى.

ورغم ضبابية مواقف «ترامب» إزاء أوروبا والاختلاف حولها بين أركان إدارته، إلا أن القلق والتوتر الأوروبى فى تصاعد خاصة وأن الرئيس الأمريكى فى أيامه الأولى فى البيت الأبيض قد اتخذ قرارات وأصدر أوامر تنفيذية تؤكد جدية تصريحاته الانتخابية مثل قرار الانسحاب من «الشراكة عبر المحيط الهادى» ضاربا بعرض الحائط توقيع إحدى عشرة دولة وقعت على هذا الاتفاق، وقراره بمنع دخول مواطنى سبع دول إسلامية من الشرق الأوسط وقرار بناء سور على الحدود الأمريكية المكسيكية. بالإضافة إلى ما تقدم فإن الأوروبيين يخشون تقاربا بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية نظراً للتقدير المتبادل بين «ترامب» و«بوتين» واحتمال تطور العلاقات الروسية الأمريكية فى اتجاه يتعارض مع مصالح الأوروبيين وهو ما يعنى امتداد النفوذ الروسى لدول أوروبية أخرى لا يستطيع الأوروبيون مواجهته منفردين بدون النفوذ السياسى الاستراتيجى الأمريكى.

والحال أن الأوروبيين كالعرب وإن بدرجات متباينة يطرحون على أنفسهم.. أو هكذا ينبغى على الأقل ذ أسئلة صعبة طالما صمتوا عنها كثيرا حول سبل توفير الحماية لأمنهم معتمدين إما على تطوير وتخصيص موارد أكبر لبناء سياسة دفاعية وأمنية فعالة، أو فى الحالة العربية بناء تحالفات جديدة عربية ــ عربية أو عربية دولية لحماية أمن الخليج ومواجهة السياسة الأمريكية التى لم تتبلور بعد ولكنها قد لا تتأخر كثيرا، وهو الدرس المشترك للأوروبيين والعرب ألا وهو أن الاعتماد على الآخرين فى قضايا تتعلق بالوجود والأمن يبدو معيبا وقاصرا مهما تطابقت السياسات والتوجهات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف