المصريون
د. إبراهيم البيومي غانم
جديد طارق البشري: اجتهادات فقهية
يسود في الخطاب الفكري المعاصر قول مؤداه: أن باب الاجتهاد لابدَّ أن يُفتح من جديد، بعد أن تم إغلاقُه من زمن بعيد. وثمة شبه إجماع بين أغلب أهل الفقه والفكر على هذا القول من حيث صحة دعوى إغلاق هذا الباب، ومن حيث وجوب فتحه. أما الذين يرون خطأ هذا القول من علمائنا المعاصريين فهم قليلون. ومن هؤلاء أستاذنا الحكيم "طارق البشري"؛ الذي يذهب إلى أن الاجتهاد في الفقه الإسلامي وتجديده لم يتوقف يوماً توقفاً تاماً، ولم يثبت عملياً أن أحداً أغلقه؛ حتى ولو شاع القول بإغلاقه نظرياً. وهو يرى أن امتناع الفقهاء أحياناً عما يريد أن يجبرهم عليه السلطان أو يغريهم به هو موقف "محافظ"، وأن المحافظة بهذا المعنى في ظروف معينة كانت موقفاً إيجابياً، وكانت تؤدي وظيفة "مقاومة" لضغوط الانحراف عن الأصول وتبديدها بدعوى التجديد. والكتاب الجديد للحكيم البشري بعنوان: اجتهادات فقهية. وهو استكمال لسلسلة أعماله السابقة التي صدرت تحت عنوان "في المسألة الإسلامية المعاصرة". ويضم هذا الكتاب الجديد(262 صفحة. دار البشير للثقافة والعلوم) مجموعة من "الاجتهادات" الفكرية والسياسية والقانونية والتاريخية التي دأب الحكيم على تقديمها في قضايا مركزية شغلت، ولا تزال تشغل، العقل الإسلامي المعاصر بصفة خاصة.وشغلت ولا تزال تشغل مجموع النخب الفكرية والثقافية على اختلاف توجهاتها ومرجعياتها بصفة عامة. لقد عرفنا الحكيم البشري مؤرخاً وقاضياً رفيع المستوى، ومفكراً، ومرجعاً قانونياً ودستورياً، واليوم نجلس بين يديه "فقيهاً مجتهداً". وحتى لا يفاجأ أحد بعنوان "اجتهادات فقهية"؛ فوصفُنا لجهوده في القضايا التي أشرنا إليها بأنها "اجتهادات" يعني أنها مستجمعة لشروط الاجتهاد في كل موضوع من موضوعاتها. ويعني أيضاً أنك بعد قراءتها ستجد أنك عرفت شيئاً جديداً في كل منها؛ قلما تجده في سوابق الاجتهادات في الموضوعات ذاتها. ولا يعني هذا أو ذاك ـ أبداً ـ أن عليك التسليم بما انتهى إليه جملة وتفصيلاً، أو الأخذ به دون مناقشته؛ إذ لك حرية المناقشة والأخذ والرد إن وجدت في نفسك قدرة على شيء من ذلك. موضوع الاجتهاد الأول في هذا الكتاب هو عن " التصور العقدي في الإسلام". ويدخل هذا الموضوع في علم الكلام؛ وهو من أعقد فروع المعرفة الإسلامية وأكثرها عمقاً. والجديد الذي يقدمه الحكيم البشري هنا هو: بيان الفرق بين امتثال الإنسان المؤمن بالله، وامتثال الإنسان المادي الذي لا يؤمن به سبحانه وتعالى. وفي سياق هذا الموضوع يقدم تفسيراً جديداً لتعدد المذاهب والفرق في تاريخ الإسلام، وعلاقة الإسلام بغيره من الديانات الأخرى.ويؤكد أن تباين المذاهب وتعددها مرجعه إلى الاختلافات الفردية بين مؤسسيها من جهة، وإلى تكويناتهم الجماعية وأوضاعهم الاجتماعية وخلفياتهم التعليمية من جهة أخرى. وأن كلاً منهم له مهمة يؤديها. وهذا المنظار يستوعب كل تلك الاختلافات ولا يستبعد واحداً منها، طالما أن الجميع يقرون بأسس الدين وأصوله العامة. وموضوع الاجتهاد الثاني يدخل في مسائل "أصول الفقه"، ويتناوله أستاذنا الكبير من زاوية: "خصائص الثبات والتغير" في الشريعة الإسلامية. ويبدؤه بالتمييز بين "الشريعة"؛ وهي إلهية منزلة وثابتة ومطلقة من حيث الزمان والمكان، و"الفقه"؛ وهو عمل بشري يطرأ عليه التغير بحسب الزمان والمكان والحال. والجديد الذي يقدمه هنا هو النظر إلى أن عهد الصحابة الكرام يكتسب أهميته من قيمته التشريعية الأصولية، وبخاصة ما نقل عن الصحابة من إجماع، وأن ما نستخصله من عهد الصحابة من أصول إنما يتعلق بما يعتبر لدينا نصوصاً وأحكاماً ذات دوام وتعلو على نطاق الزمان والمكان، وشأنها في ذلك شأن سوابق التشريع. وهذا النظر جديد. وقد زاده أستاذنا شرحاً وبياناً وتأصيلاً في كتابه " الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة والقانون الوضعي". والفرق بين ما ذهب إليه في هذا الموضوع وما سبق أن نبه إليه بعض علماء الأصول بشأن "قول الصحابي" أو "عمل أهل المدينة" كمصدر من مصادر الاستدلال؛ هو أنه حفظه الله يعتبر "مرحلة الصحابة" بأكملها في حكم السوابق التشريعية، ومن ثم تدخل بهذا الاعتبار في حكم الدليل الشرعي، ومن ثم تندرج في أصول الاستدلال، وتخرج من كونها مجرد مرحلة تاريخية متحيزة زماناً ومكاناً. ولا أخال الأصوليين التقليديين إلا متوقفين طويلاً عند هذا الاجتهاد الجديد. أما موضوع الاجتهاد الثالث فهو يتصل بمفهوم "التجديد" في الفقه، وبخاصة فيما عرف قديما بفقه "النوازل"، وذلك ضمن السياقات التاريخية والمجتمعية. والجديد في هذا الاجتهاد تعريفه للتجديد ، وهو: " كيفية استجابة الأحكام الشرعية ونظم الإسلام ودعوته للتحديات التي تواجه عقيدة المسلمين وديارهم". وفي رأيه أن التجديد لا يعني "إسباغ بردة الإسلام على ما نشاهد ونمارس من أوضاع المعيشة في حياتنا الراهنة". ثم يضع معنى التجديد على هذا النحو في سياق التحديات الكبرى التي تواجه مجتمعات الأمة، وأهمها: تحدي السيطرة الأجنبية، وتحدي التفتيت السياسي، وتحدي التبعية للأفكار والنظم الوافدة، وتحدي الضروريات المعيشية التي يجب أن تنهض بها مجتمعات الأمة. وفي رأيه أن التجديد والاجتهاد في هذا الإطار لم يتوقف أبداً؛ وإنما زاد ونقص. أو قوي وضعف. وضرب أمثالاً على ذلك من اجتهادات عدد كبير من رواد التجديد الإسلامي في العصر الحديث ومنهم: الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد إقبال، ورشيد رضا، وحسن البنا، والمودودي، والكاندهلوي، وسيد قطب، وسعيد النورسي، وغيرهم. وعلى هذا الأساس يرسم أستاذنا الكبير ملامح "خريطة الفكر الإسلامي المعاصر" خلال القرنين الأخيرين في ضوء مفهومين مركزيين هما: التجديد الموروث، والتجديد الوافد. وهو يبرهن على أن التجديد النافع يجب أن يكون في إطار الموروث وأصوله المرجعية الثابتة من الكتاب والسنة. ويكشف في الوقت نفسه عن "زيف التجديد الوافد" ويسميه "التجديد المضل" ، وهو ما حدث في سياق الهيمنة الأجنبية الاستعمارية، واستهدف اقتلاع جذور هوية الأمة الإسلامية تحت دعاوى التجديد والعصرنة. وعلى هذا الأساس قرأ الحكيم البشري الحركة السلفية للشيخ محمد بن عبد الوهاب قراءة جديدة ووضعها في موضعها من جهود الإحياء والتجديد التي عرفتها الأمة في تاريخها الحديث والمعاصر. وأترك للقارئ الكريم مطالعة تفاصيل هذه القراءة ومناقشتها بنفسه في الفصل الثالث من هذا الكتاب. ثمة اجتهاد رابع تجده في هذا الكتاب، يدخل موضوعه في أصول النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام. وفيه يرى أستاذنا أن قيمتي: العدالة، والمساواة؛ تربطهما علاقة تراتبية تأتي فيها المساواة بين البشر كمقدمة لازمة وضرورية لبلوغ مقصد أعلى وهدف أصيل هو "العدالة". المساواة في جوهرها تعني الإقرار بوحدة الجنس البشري والتسوية بين الناس جميعاً؛ والعدالة تهدف إلى التعامل مع الواقع القائم وتحقيق التساوي الفعلي فيه؛ فالمساواة في نظر العدالة "هدف" وليست مجرد اعتراف نظري بها. وفي ضوء هذا الفهم لعلاقة العدالة بالمساواة، يوضح أستاذنا كيف تسهم هاتان القيمتان في تشكيل النظام الاجتماعي والاقتصادي بالمعايير الإسلامية، وكيف ينبني على أساسهما نظام الحقوق الفردية والجماعية. ويقدم اجتهادات جديدة في مسألتين لم ينقطع حولهما الجدل منذ عقود طويلة وهما: مسألة الأقليات غير المسلمة، ومسألة المرأة في المجتمع الإسلامي. أما موضوع الاجتهاد الخامس الذي تجده في هذا الكتاب فهو يتناول الإجابة على سؤال: كيف يمكن لمجموع من الناس أن ينشط ويدير شئونه ويدافع عن مصالحه ويحقق أهدافه؟. وتدخل الإجابة التي قدمها أستاذنا في صميم الاجتهاد في بناء نظم ومؤسسات الدولة المعاصرة؛ وبخاصة المؤسسة التشريعية، والمؤسسة القضائية بفروعها المختلفة. وبعد المقارنة بين الممارسات التقليدية في التاريخ الإسلامي القديم، والنظم المستحدثة الوافدة؛ التي ارتبطت بنشأة الدولة الحديثة في مجتمعات الأمة الإسلامية؛ ينتهي اجتهاده في هذا الموضوع إلى الإقرار بوجوب الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات العامة والتوازن فيما بينها، مع إحلال القرار الجماعي/الشوري محل القرار الفردي، مع وجوب صون إرادة الإمة واستقلالها في جميع الأحوال. وبتطبيق هذا الاجتهاد على محاولات الإصلاح المؤسسي والسياسي التي ظهرت خلال القرنين الماضيين، يحذرنا الحكيم البشري مما يسميه "الإصلاح المضل"، أو "الفاسد"، ويضرب عليه مثالاً بمحاولة مدحت باشا للإصلاح الدستوري في عهد السلطان عبد الحميد؛ حيث تجاهلت "الديمقراطية" التي دعا إليها مدحت باشا إرادة الأمة، وصارت باباً رسمياً للتدخل الاستعماري في شئون الدولة العثمانية؛ حتى زالت من الوجود بعد أن جرت بها كل محاولات الإصلاح باسم المحافظة عليها. ليست هذه هي كل الاجتهادات التي تضمنها الكتاب، ولا أستطيع أن أقول إنها أكثرها أهمية؛ وبخاصة أنها في مجملها تقدم صورة جديدة لما يجب أن يكون عليه الفقه في تناول القضايا الكبرى للأمة؛ كي نُصحح الصورة السائدة عن الفقه باعتباره عملاً يختص فحسب بقضايا المجال الخاص حتى يكاد يطبقُ وينغلق على نفسه. هذا الكتاب يقدم لك نموذجاً تجديداً طالما تحدث عنه آخرون دون أن يعرفوه أو يمارسوه. تجده ينظر في مسائل العقيدة بعمق إدراكه للواقع، وفي مسائل الواقع بعمق الأصولي العريق في علمه. وبعد مشاورات مكثفة أجريتها مع عد من أصدقائي المهمومين بشئون التجديد والإصلاح العام في الأمة توصلنا إلى أن هذا الكتاب يرشح الحكيم البشري للوقوف في مصاف أصحاب العقول الكبار التي اجتهدت في تاريخ الأمة. فاللهم انفع به واحفظه بحفظك.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف