الأهرام
عبد العليم محمد
جدل الدين والحداثة
عرفت الصديق الأستاذ صلاح سالم منذ بداية النصف الثانى من التسعينيات، ولفت نظرى وانتباهى بطموحه الفكرى والثقافى الكبير، الذى يشغل عقله وفكره، وعندما أهدانى نسخة من كتابه المهم المعنون «جدل الدين والحداثة من عصر التدوين العربى إلى عصر التنوير الغربى» وعكفت على قراءة أجزاء منه، تأكدت أنه كان بمستوى هذا الطموح، وأنه يمتلك القدرات والمؤهلات العلمية والفكرية والبحثية الضرورية؛ لكى يخرج هذا الطموح إلى النور ويشق مجراه فى الحياة الفكرية والثقافية.

يصحبنا صلاح سالم فى هذا الكتاب، فى رحلة فكرية ممتعة ومثيرة للتفكير والتأمل، رحلة عالمية وكونية وإنسانية تمتد جغرافيا من الشرق إلى الغرب ودينيا من الإسلام إلى المسيحية والديانات التوحيدية، بل والديانات بشكل عام، وزمنيا تمتد من ظهور الديانات التوحيدية إلى زمن الحداثة وما بعدها، وذلك عبر مختلف اللحظات التاريخية الفارقة والمؤسسة، لمرتكزات كل من الدين والحداثة، وطبيعة الجدل والتفاعل بينهما وتجلياته الفكرية والسياسية. يتمحور «جدل الدين والحداثة» حول فكرتين، أو بالأحرى أطروحتين أساسيتين؛ شغلتا العقل البشرى منذ ظهور الأديان التوحيدية بصفة خاصة، ومثلتا بؤرة الصراع والتوتر طوال مسيرة التاريخ الإنسانى ورحلته مع الدين والحداثة، والتى استمرت عدة قرون ومازالت حتى الآن، وتشكل هاتان الأطروحتان مرتكزات التجليات الفكرية والفلسفية والسياسية والعقلية والعلمية التى نجمت عن جدل الدين والحداثة أو الصراع والتفاعل بينهما.

تتمثل هاتان الأطروحتان حول «مركزية السماء» وملكوت اللهس الذى يتجلى فى الإيمان الدينى التوحيدى، بدرجات وصور متباينة فى الأطروحة الأولى، وتتمثل الأطروحة الثانية فى «مركزية الإنسان» والفاعلية العقلية التى يمتلكها والقادرة على سبر أغوار الطبيعة والوجود المادى وفك شفراتهما وكشف وقوانينهما للسيطرة عليهما، وكان لكل من هاتين الأطروحتين لحظات وتجليات وتأويلات مختلفة وفق العصور والملابسات التاريخية، انعكست آثارها على الإنسان وأنظمة الحكم والسلطة والفلسفة وعلوم الطبيعة؛ ففى حين أن مركزية السماء والإيمان والتوحيد التى سيطرت على قرون ما قبل الحداثة، أفضت فى أغلب لحظاتها ومراحلها إلى تهميش الإنسان وتقييد حريته وإرادته وعقله إذا ما استثنينا بعض اللحظات التاريخية المضيئة فى تاريخ الإسلام أو فى تاريخ المسيحية، فإن الحداثة عبر تطورها المتلاحق استندت على مثلث تأكيد سلطة العقل والإرادة والحرية الإنسانية، عزز من ذلك المكتشفات العلمية والعقلية التى اكتسبتها الإنسانية فى معرض اكتشفاها لذاتها وإعمال فاعلية العقل باعتباره مفتاح فهم الطبيعة وكشف مكنونها وأسرارها.

كان من نتائج هذا الصراع وتلك المنافسة بين الروح والعقل الإيمانى، وبين الروح والعقل البشرى الحديث، صراع المقدس والدنيوى على الاستحواذ على مقدرات الإنسان وحاجاته الرمزية والمادية، فاستهدف الدنيوى والحديث تهميش «المقدس» والتقليدى تدريجيا؛ بهدف إزاحته كليا أو الإبقاء عليه فى إطار المجال الخاص، فى حين أن الدينى والمقدس كان يحاول استعادة مواقعه التى فقدها فى خضم هذا الصراع.

فى المجال الدينى كانت لحظات الحرية والعقلانية والإرادة الإنسانية تبدو كومضات سريعة لا تتمكن من الصمود طويلا أمام التيار السائد والمسيطر من ناحية التأويل وانتزاع الإنسان من حريته وإرادته، بل سرعان ما تنزوى أمام تحالف السلطان والفقهاء أو تحالف الكنيسة ورجال الدين مع الملوك والإقطاع والنبلاء؛ فى إطار هذه السيطرة الفكرية والعقلية التقليدية لسلطة الدين، شقت الحداثية مجراها عبر مراحلها ولحظاتها المختلفة سواء الجمالية والفنية والعقلية والسياسية والعلمية والتى فتحت الأبواب أمام مغامرة العقل الإنسانى.

أفضى هذا الصراع والتفاعل بين الدين وتأويلاته وبين الحداثة وتجلياتها العلمانية والسياسية والعلمية، إلى موجات متلاحقة من المغالاة والتطرف المستند إلى أسس فلسفية ومادية معادية للدين وداعية إلى انزوائه وإنهاء سيطرته على حياة البشر، كذلك وفى مواجهة هذه المغالاة وذاك التطرف المعادى للدين والمعتقدات الدينية، وجد التطرف الدينى طريقه لاستعادة «مركزية المقدس» عبر الإرهاب والممارسات الإجرامية باسم «المقدس» كما نشهده فى هذه الأيام ومنذ عقود مضت.

يطرح الأستاذ صلاح سالم فى مواجهة تلك الثنائية المتطرفة الدينية والعلمانية «نداء استغاثة» لإنقاذ البشرية من الغرق بطرفيها الدينى والعلمانى، ويتمثل مضمون هذا النداء فى اقتراح التوازن بين السماء والأرض، بين المقدس والدنيوى، من خلال تأسيس «روحانية مؤمنة» تسمو بالنفس البشرية وبالأخلاق الإنسانية سموا يجعلها فى موقع المصالحة مع ذاتها ومع الآخرين، ويوفر مرجعية قيمية ونموذجية للمزواجة بين العلم والإيمان، بين الحرية الإنسانية وبين الإيمان بالمقدس، وتقيم مصالحة ممكنة واقعيا وعمليا وفلسفيا بين الفهم السامى للدين وبين منجزات العلم والعقل والحداثة.

ويرتكز هذا التصور فى كتاب «جدل الدين والحداثة» على أسس عديدة من بينها، أن معظم وأغلب الفلسفات التنويرية والمادية والتيارات السياسية التى ارتكزت عليها يبدو وكأنها لم تفلح فى إزاحة الدين كلية من المجال العام، حتى فى صورها الأكثر راديكالية فى مناهضة الدين والمقدس كالعلمانية الكمالية فى تركيا والعلمانية اليعقوبية فى فرنسا، وغيرهما من البلدان التى تبنت الفلسفة المادية والاشتراكية، حيث عاد الدين ليشغل مكانته فى هذه المجتمعات، ويلبى الحاجة العميقة للتدين والإيمان.

عندما تقرأ كتاب «جدل الدين والحداثة» لن تخرج منه كما دخلت أول مرة، فسوف يؤرقك وسيدفعك إلى مزيد من التفكير والتأمل ويفتح لك الباب للخروج من أسر هذه الثنائية أو على الأقل محاولة الخروج.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف