المصريون
د. إبراهيم البيومي غانم
الإنصاف في إصلاح الأوقاف
كانت محاولة محمد قدري باشا لإصلاح الأوقاف في الربع الأخير من القرن التاسع عشر هي أول محاولة جادة للنهوض بهذا القطاع وإعادة توجيهه في خدمة المجتمع. وجاءت محاولته في مدونته الشهيرة بعنوان "قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف". كان قدري باشا منصفا في اقتراحاته، ولكن هذه الاقتراحات لم تكن كافية للقضاء على مشكلات الأوقاف؛ بل ظلت تتفاقم حتى فقد هذا القطاع انتماءه الأصيل للمجتمع وأمسى جزءاً من البيروقراطية الحكومية المترهلة. والسؤال الآن هو: هل توجد وصفة عملية أو إجرائية تكفل إحياء قطاع الوقف وتجديد دوره الفعال في واقع مجتمعنا المصري؟. والإجابة هي : نعم. وهذه هي الوصفة العملية الإجرائية لإحياء دور نظام الوقف وتطويره في خدمة المجتمع والدولة معاً: 1ـ إلغاء قانون رقم 180 لسنة 1952م الذي قضى بإلغاء الوقف على غير الخيرات، والعودة ـ مؤقتاً لنصوص القانون رقم 48 لسنة 1946م التي تجيز الوقف الأهلي "المؤقت" على خير الخيرات، وتجيز الوقف الخيري المؤبد والمؤقت في آن واحد بحسب الاختيار الحر للمتبرع بالوقف. 2ـ إلغاء القانون رقم 247 لسنة 1953م بشأن النظر على الأوقاف الخيرية وتعديل مصارفها على جهات البر، وإلغاء جميع القوانين المعدلة له أيضاً، وأهمها: القانون رقم 547لسنة 1953م، والقانون رقم 296 لسنة 1954م، والقانون رقم 30 لسنة 1957م.والقانون رقم 28 لسنة 1970م(وهو أسوأ تعديل على الإطلاق؛ حيث نص على إنزال عقوبة الحبس، والغرامة، أو إحداهما على واضعي اليد من أبناء الواقف بعد موته، ما لم يقوموا بتسليم ما تحت يدهم من أوقاف مورثهم لوزارة الأوقاف خلال شهرين من تاريخ إخطارهم بذلك. إن النص على عقوبة بالحبس أو الغرامة في شأن عمل تطوعي خيري وقفي، لم يكن له من أثر سوى الإحجام التام عن مجرد التفكير في التبرع بشيء قد يعرض ذرية المتبرع للحبس أو الغرامة!. 3ـ وجوب إعادة النظر في قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م، وتطويره باتجاه إزالة القيود والعوائق التي تحول دون المبادرات الخيرية الوقفية. وهذا مشروع قانوني كبير يتعين تشكيل لجنة متخصصة لإنجازه وفق رؤية واضحة تؤمن بوجوب استقلالية قطاع الأوقاف عن الهيمنة الحكومية، وتسعى لتحريره من أسر التعقيدات البيروقراطية وفسادها. ومن العوائق القانونية وجمودها. وهذه العوائق ليست في قوانين الوقف فحسب؛ وإنما في القوانين الأخرى ذات العلاقة به مثل: قانون الجمعيات الأهلية، وقانون الضرائب، وقانون الاستثمار، وقانون الوصية...إلخ. 4ـ وجوب ربط نظام الوقف بمؤسسات المجتمع المدني من حيث التمويل، والإدارة، وتخصيص موارد الوقف، ومن حيث الرقابة والإشراف والمحاسبة. سداً لذرائع التمويل الأجنبي ومساوئه. 5 ــ تشجيع رجالِ الأعمالِ، وأهلِ الخير من الأثرياء بتأسيس وقفيات جماعية جديدة. ويكون من أهدافِ هذه الوقفيات تجسيرُ الفجوة بين نظام الوقف ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وذلك حتى يوفر الوقفُ التمويل اللازم لهذه المؤسسات وتلك المنظمات لكي تقوم بمشروعاتها التعليمية، والصحية، والاجتماعية، ...إلخ، بحرية واستقلال بعيداً عن قيود التمويل الأجنبي ومخاطره؛ التي تتغلغل في أحشاء مجتمعنا متسربلة بتقديم الدعم المالي لمؤسسات المجتمع المدني وجمعياته. 6 ــ لن يكونَ لائقاً بهيئة الأوقاف المصرية؛ أن تظل في المستقبل على ما هي عليه اليوم من ترهلٍ بيروقراطي، وانزواء في الظل، وانخفاض للأداء الاقتصادي والاستثماري، وعجزٍ عن اتخاذ قراراتها ورسم سياستها باستقلالية فيما يتعلق بشؤون الأوقاف وسياسات استثمارها. وثمة كثير من الإجراءات العملية الأخرى التي تسهم في إحياء قطاع الأوقاف وتفعليه. وما أوردناه، إلى جانب ما يمكن أن يضاف إليه؛ يستهدفُ استيفاءَ شروط فاعليةِ هذا القطاع في الواقع والتطبيق. وتشمل شروط فاعليته الآتي: أولاًـ وجوب احترام إرادة الواقف: "إرادةُ الواقـفِ” المقصودة هنا هي التي يقوم بالتعبير عنها ـ في وثيقة وقفه ـ في صورة مجموعة من الشروط التي يحدد بها كيفيةَ إدارةِ أعيان الوقف، وتقسيم ريعه، وجهات الاستحقاق المستفيدةِ من هذا الريع، ويطلق على تلك الشروط في جملتها اصطلاح "شروط الواقف"، وقد أضفى الفقهاء عليها صفة الإلزام الشـرعي فقالوا: إن "شرط الواقف كنصِّ الشارع، في لزومه ووجوب العمل به". إن الإرادة الحرة للواقف هي حجر الزاوية في بناء نظام الوقف كله على صعيد الممارسة الواقعية، ولم يكن لهذا النظام أن يظهرَ وينمو وتتنوع وظائفُه بدون تلك الإرادة، التي كفلت له أحد عناصر فاعليته؛ ولذلك فقد أضفى عليها الفقهاءُ صفة الحرمة، وأكسبوها قوة الإلزام. وقد لاحظنا أن هذه الإرادة الحرة قد أهدرتها التشريعات الوقفية الحديثة، وشوهتها القرارات والسياسات الحكومية منذ منتصف القرن الماضي. ثانياً‌ـ اختصاص السلطة القضائية بالولاية العامة على الأوقاف: قرر الفقهاء أن الولاية العامة على الأوقاف هي من اختصاص السلطة القضائية وحدها دون غيرها من سلطات الدولة، وتشمل هذه الولاية ولاية النظر الحسبي أو ما يسمى بالاختصاص الولائي، وولاية الفصل في النزاعات الخاصة بمسائل الأوقاف، أو ما يسمى بالاختصاص القضائي الذي يفصل في المنازعات. والذي يهمنا هنا هو "الاختصاصُ الولائي" الذي يشمل شئون النظارة على الوقف وإجراء التصرفات المختلفة المتعلقة به؛ بما في ذلك استبدال أعيانه عند الضرورة، والإذن بتعديل شروط الواقفِ أو بعضٍ منها، والحكم بإبطال الشروط الخارجة عن حدود الشرع وفقًا لمقاصده العامة. ومن الواضح أن مثل تلك التصرفات من شأنها التأثير في استقلالية الوقف، ومن ثـم في فاعلية الأنشطةِ والمؤسساتِ العمرانيةِ التي ترتبط به، وتعتمد فـي تمويلها عليه؛ ولهذا أعطى الفقهاء للقضاء الشرعي-وحده دون غيره - سلطةَ إجراء التصرفات في الحالات التي تعرض للوقف بما يدفع عنه الضرر ويحقق له المصلحة، باعتبار أن "القضاء الشرعي" هو المختص بتقدير مثل هذه المصالح، ولكونه أكثر الجهات استقلالية ومراعاة لتحقيق العدالة وعدم تفويت المصلحة العامة والخاصة. ويمكن القول: إن بقاء نظام الوقف تحت الاختصاص الولائي للسلطة القضائية الشرعية كان أحد عناصر ضمان استقلاليته واستقراره وفعاليته، وبالتالي فإن إلغاءَ هـذا الاختصاص ، أو إخراج الوقف من تحت مظلته قد أضعفَ استقلاليته، وقوَّضَ أساساً من أسس فاعليته الحضارية والاجتماعية . وقد أهدرت السياسات الحكومية هذا العنصر أيضاً بإلغاء القضاء الشرعي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، والمطلوب هو: التفكير في كيفية توفير هذه الحماية الشرعية لقطاع الأوقاف في منظومة القضاء المصري. ثالثاًـ ـ تمتع الوقف بالشخصية الاعتبارية : يُستفادُ من أحكامِ فقه الوقف وتفريعاته ـ لدى جميع المذاهب الفقهية، أنَّ الوقف يصبح محلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات متى انعقدَ بإرادة صحيحة صادرة من ذي أهلية فيما يملكه، ومتى كان متجهاً لتحقيق غرض مشروع من أغراض البر والمنافع العامة أو الخاصة، وينطبق ذلك على أعيان الوقف وعلى المشروعات التي تنشأ تحقيقاً لأغراض الواقف وشروطه. إن إقرار الشخصية الاعتبارية للوقف كان بمثابة ضمانة تشريعية وقانونية تدعم الضمانتين السابقتين ، وتضاف إليهما للمحافظة على استقلاليته واستمراريته وفعاليته في آن واحد ؛ وذلك لأن وجود ذمة مستقلة للوقف لا تنهدم بموت الواقف كان من شأنه دوماً أن يحفظ حقوقه في حالة تعرضه للغصب ، أو الاعتداء ، حتى ولو كانَ من قبل السلطات الحكومية. لقد كفلت تلك الأسس التي أوردناها لنظام الوقف ـ قبل أن يتم استيعابه داخل البيروقراطية الحكومية ـ أن يكون مصدراً للتمويل الأهلي يتمتع بثلاث خصائص هي منتهى أمل "المجتمع المدني" بمعناه الحديث والمعاصر، وهي:الاستقرار Stability ـ والاستمرار Sustainability والاستقلال Independency. أما "الاستقرارُ"؛ فلأن الأصولَ الاقتصادية للوقف تنتمي إلى أثبت دعائم الثروة الاقتصادية في المجتمع وهي "العقارات والأراضي الزراعية"؛وهي تمثل العمودَ الفقري لاقتصاديات نظام الوقف. وأما "الاستمرارُ"؛ فلأنَّ من شروط الوقف ـ عند أغلبية المذاهب الفقهية ـ أن يكون مؤبداً، ولا يجوز الرجوع فيه، وخاصة إذا كان مخصصاً للإنفاق على أغراض خيرية، أو مؤسسات ذات نفع عام. ويضمن شرطُ التأبيد استمرارَ تدفقِ التمويل الناتج عن الأعيان الموقوفة لفترات زمنية طويلة، بشرط أن يتم استثمار تلك الأعيان وفقاً لأكفأ أساليب الاستثمار وبحسب قواعد السوق الحرِ. وأما "الاستقلالُ"؛ فلأنَّ الأصلَ في نظام الوقف برمته هو استقلال إرادة الواقف ـ مؤسس الوقف ـ وقدرته على تحديد أولويات صرف عوائده وتخصيصها للمنفعة العامة؛ دون أن تكونَ لأي سلطة حكومية أو إدارية حق التدخل بتغيير إرادته، طالما لم تخالف مقصداً عاماً من مقاصد الشريعة. ومعروف أن "المصلحةَ" هي جوهر هذه المقاصد، وهي معادِلةٌ لما نسميه باللغة المعاصرة "المصلحة العامة". وإذا تحققت استقلالية قطاع الأوقاف، فلن يكون هناك "حائل بين نية الخير وعمله" كما قال قاسم أمين قبل أكثر من مائة سنة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف