الأهرام
د. قدرى حفنى
عن أى عنف نتحدث
للعنف تصنيفات تفوق الحصر، وهى تتوقف فى النهاية على الهدف العملى للقائم بالتصنيف، وعلى التعريف الإجرائى الذى يلتزم به.
ولعل تعبير «التعريف الإجرائي» الذى تكاد تنفرد به العلوم الإنسانية يجسد مشكلة ارتباط تعريف الظاهرة موضع البحث بهوية وأهداف القائم بالتعريف.

ونظرا لتلك الإشكالية المنهجية، فقد تعددت تصنيفات ممارسات العنف بحيث تشمل مدى واسعا من التصرفات ابتداء من نظرة غاضبة أو لفظ جارح أو حتى تجاهل مهين و لو بالصمت، إلى جميع أشكال إيذاء الذات من قرض الأظافر إلى التأنيب القاسى للذات إلى التدخين إلى الانتحار الفردى أو الجماعي.

و من أكثر تصنيفات العنف إثارة للجدل، و لعلها الأقرب إلى ما تواجهه بلادنا، تصنيف العنف وفقا للمشروعية أو القبول الاجتماعي. ثمة عنف مقبول اجتماعيا يضفى عليه المجتمع مشروعية عالية تصل إلى حد عقاب من يتخاذل عن ممارسته، و الإشادة بمن يمارسه، فعلى سبيل المثال، تعد ممارسة المصارعة والملاكمة و غيرها من أنواع «الرياضة العنيفة» نوعا من العنف يلقى تشجيعا فى العديد من المجتمعات حيث يتم تكريم صاحب الأداء الأكثر عنفا. وكذلك فإن تنفيذ عقوبة الإعدام مثلا وهى أعلى درجات العنف يسند تنفيذها إلى موظف حكومى يتم تدريبه ويتقاضى راتبه مقابل ممارسته القتل. كذلك فإن الجيوش تدرب أبناءها على القتال وتحيط تدريبهم بالمناخ الثقافى الفكرى الذى يحفزهم لممارسة أعلى درجات العنف. و بالمثل فإن مراكز البحوث العلمية المتخصصة فى تطوير الأسلحة التقليدية و الذرية والنووية والبيولوجية إلى آخر قائمة «أسلحة الدمار الشامل» مؤسسات تحظى بأعلى درجات الاحترام و التوقير و يزداد تكريم العاملين فيها كلما أبدعوا فى ابتكار الأسلحة الأشد فتكا وتدميرا. كل تلك الأشكال من العنف تصنف باعتبارها «عنفا مشروعا» ولكنه فى النهاية عنف لا يختلف فى نتائجه عن بقية أشكال العنف إلا فى أنه «عنف مشروع».

خلاصة القول إن ثمة أنواعًا من العنف تعد بمنزلة ضرورة حياة بالنسبة للفرد ، عليه أن يمارسها دفاعًا عن حياته إذا ما تعرضت لتهديد 0 بل لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا ما سلمنا بأن المجتمعات جميعها - ودون أى استثناءات - تشجع ممارسة أنواع بعينها من العنف، ليس هذا فحسب، بل وتدين من يتقاعس من أبنائها عن ممارسة هذا العنف، موقّعةً عليه أنواعًا شتّى من العقاب، تتراوح بين التأنيب و الاحتقار ، إلى النفى بل والإعدام بتهمة الخيانة العظمي، والأمثلة على ذلك عديدةٌ ، وهى غنية عن البيان

غير أن قضية «المشروعية» هذه تثير العديد من الإشكاليات حول تحديد المخول بإضفاء غطاء شرعى على نوع محدد من أنواع العنف دون سواه، ووضع القواعد المنظمة لممارسته بحيث يعتبر من يتجاوز تلك القواعد خارجا على الشرعية. إن من يمارس العنف أيا كان نوع العنف الذى يمارسه يستند عادة إلى نوع من «التبرير» أو «الموافقة» يلتمسه من مرجعية يرتضيها، ويعتبرها مؤهلة لإدراج ممارساته ضمن أنواع «العنف المشروع». وقد تتمثل تلك المرجعية فى الدولة المدنية الديمقراطية فى قانون وضعى ودستور يرتضيه الشعب ويلتزم به الجميع، أو تتمثل تلك المرجعية فى الدولة الدينية فى الشريعة الدينية أو بالأحرى فى تأويل محدد لتلك الشريعة يختص بتحديد ملامحه رجال الدين دون غيرهم؛ وغنى عن البيان أن تأويلات الشريعة قد تتباين رغم أنها قد تستظل بمظلة دين واحد أو حتى مذهب واحد؛ ولا نستطيع أن نغفل فى هذا السياق دور العرف والتقاليد السائدة فى إطار جماعة صغيرة أو كبيرة قد يعتبرها الفرد بمنزلة «الجماعة المرجعية» بالنسبة له.

و غنى عن البيان أن تلك المرجعيات المتباينة لا تتفق فى كل الأحوال بل قد تتناقض فى أحيان كثيرة، بحيث يصبح مرتكب جريمة الثأر مثلا مدانا من حيث القانون مكرما بين أفراد عائلته، ويصبح «الإرهابي» الذى صدع لأمر «أمير الجماعة» مجرما من وجهة نظر القانون الوضعي، بطلا من وجهة نظر جماعته، و الأمر أشد جلاء فيما يتعلق بالحروب حيث لا يوجد عبر التاريخ دولة أو جماعة أعلنت أنها تشن حربا غير شرعية، كل الأطراف المتقاتلة تعلن أنها تخوض حروبا دفاعية مشروعة بل و مقدسة فى بعض الأحيان..

و يرتبط بقضية المشروعية هذه نوع محدد من أنواع العنف هو «العنف السياسى»، و إذا كانت غالبية ممارسى العنف يستهدفون إلحاق الأذى بشخص أو بأشخاص محددين، فإن ممارس العنف السياسيّ لا يستهدف أشخاصًا لذاتهم، بل يستهدفهم لصفاتهم الاجتماعية ، أو الفكريّة ، أو الدينيّة ، أو العرقيّة 0 إنه لا يستهدف أشخاصًا لذواتهم بل باعتبارهم رموزٌا تعبر عن الآخر المرفوض0 ولذلك فليس من المستغرب أن تتجه رصاصات العنف السياسيّ إلى ضحيّة لا تربطها بمن أطلق الرصاص أى علاقة شخصيّة ، بل قد لا يكون لأحدهما معرفةٌ بالآخر إلّا رمزًا

ولحديثنا بقية إن شاء الله لنستكمل حديثنا عن سمات الإرهابى ممارس العنف السياسي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف