الصباح
كمال الهلباوى
العيب فينا
هكذا كان الشيخ محمد الغزالى رحمه الله تعالى، صاحب بصيرة وصاحب قلم جرىء. كتب هذا المقال منذ أكثر من خمسين سنة فهل تغير فينا شىء ؟ ظل العيب فينا كما كان. يقول الشيخ رحمه الله تعالى فى مقالاته فى الجزء الثانى من كتاب الحق المر:
«هل تحسب أن الله يكرم أمة من الأمم بدين عظيم فتأبى هى الكرامة، ثم تعكس هوانها على دينها، وبعد ذلك تفلت من العقاب الأعلى؟ كلا.. ومن هنا تتابعت السياط الكاوية على الأمة المفرطة، وتناولتها اللطمات من كل جانب. وبلغ من إيجاع القدر للمفرطين أن اليهود كانوا هم الأداة التى ضربوا بها، كأن المسلمين لن يضربوا بعصا حين أخطأوا، لقد ضربوا هذه المرة بإخوان القردة ونعال الأرض.
وما من منكر ارتكبه أبناء إسرائيل قديمًا واستحقوا به غضب الله إلا فعل المسلمون فى العصور الأخيرة مثله. وكتابنا شاهد علينا، فلننظر: ما الذى نسب إلى هؤلاء؟ ولنقارن بين ما وقع منا، وما نسب إليهم، أخذت المواثيق على بنى إسرائيل ألا يسفكوا الدماء، وألا يروعوا الآمنين، وألا يشردوا رجلًا من بيته. ويخرجوه من أهله. ففعلوا ذلك كله، وفعلنا نحن مثله.
تأمل قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ». وهذا الميثاق يتضمن – بلغة عصرنا – ضمانات لحقن الدماء، وحفظ الحريات، وإشاعة الطمأنينة.
والواقع أن القيمة العليا، أو الميزة العظمى للمجتمع المتدين أن يكون الإيمان مصدر أمان لكل فرد فيه، وأن يكون الإسلام مبعث سلامة وعافية ورضى. أما أن يحيا الضعيف قلقًا على حرمانه. وأن يمشى فى البلاد خائفًا يترقب، أما أن ينتفخ القوى ويبسط يده بالأذى دون رادع، أما أن يستطيع ملاك السلطة اختطاف الناس من بيوتهم أو بتعبير القرآن إخراجهم من ديارهم، فهذا وضع لا يستقر معه إيمان.
ومن جوامع الكلم للنبى صلى الله عليه وسلم، «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن»، أى أن الإيمان يغل اليد عن العدوان ويحجز عن الأذى.
وقد أخذ الله على بنى إسرائيل –قديمًا– أنه لما قامت لهم دولة، وملك بعضهم السلطة، هانت عليه أخوة الدين، فبغى، وأفسد، وقاتل، وأسر.
وقد نظرت إلى تاريخ المسلمين –خصوصًا هذا الأعصار- فوجدته نسخة أخرى من خلال اليهود الذين قبح الشارع صنعهم، وأوهى بناءهم، حتى لقد خُيَّل إلىَّ أن الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط دون غيرها من شعوب الأرض أقل استمتاعًا بالحقوق الطبيعية للإنسان.
ولقد رأيت بعض المعارضين يفرون من وجه الحكام إلى أوروبا، فإذا وراءهم من يقتلهم حيث لجأوا.
فماذا يقول الأوروبيون الذين لا يدينون ديننا فى مثل هذه التصرفات؟ وكيف يكون رأيهم فى الإسلام وأهله؟.
أذكر أنى منذ ربع قرن، كتبت خاطرة بعنوان «حرب الحزازات وحرب العصابات»، قارنت فيها بين ضحايانا من القتلى فى الخصومات العائلية، وبين ضحايا الشعوب التى تقاتل من أجل حرياتها، فوجدت ضحايانا أكثر فى هذا الشقاق العائلى أو هذا النزاع الداخلى بين المسلمين.
كأن فينا نزل قوله تعالى «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ»، والأمة التى يعتدى بعضها على بعض، تحرم عناية الله وبركاته فى الأولى والأخرة، وقد عرفنا كيف كرم الله بنى آدم، وكيف نظر رسول الله صلى الله عليه سلم إلى الكعبة ثم قال «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا».
إن هذه مقدسات، ومع ذلك فإن الجور استباحها. لما كان الإسلام كلاًّ لا يتجزأ؛ فإن الله عدّ استباحة بعض محارمه إضاعة لها كلها، كما عد الكفر ببعض أنبيائه كفرًا بهم جميعًا «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».
والتلويح بعدم النصر إشارة إلى أن وسائل القسوة والبطش لا تكسب ذويها عزًا فى الدنيا، كما لا تكسبهم كرامة فى الدار الآخرة. ومن خيانة الأمة لرسالتها أن تبرد عاطفتها تجاه حقوق الله، وأن تجعل حبها وبغضها مرتبطًا بمصالحها لا بمبادئها. ولو أنك رأيت امرئ ينظر إلى علم بلاده وهو يُمزَّق مثلاً ثم لا يبالى، ما ترددت فى الحكم عليه بأنه خائن، كذلك عندما ترى تابعًا لدين ما يستهين بشعائر دينه، فما يعنيه حلالها ولا حرامها، فإنك ما تتردد فى اتهام عقيدته. ويوجد ناس مايسوؤهم أبدًا أن تعطل الصلاة، ولا أن تذبح الأعراض. أهؤلاء بينهم وبين الله علاقة حسنة ؟ مستحيل. فإذا رأيتهم يصادقون تاركى الفرائض، وفاعلى المناكر، فهل يحسبون مع ذلك فى عداد المؤمنين ؟ كلا.
عندما تحلل اليهود من دينهم على هذا النحو قال فيهم «تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ».
أقول انتهى المقال الذى اخترته حسب المكان المتاح وللقارئ أن ينظر فى الواقع أين العيب اليوم؟ طبعًا بعضهم لايزال يرى أن كل شىء تمام التمام وأن العيب ليس فينا.
وبالله التوفيق
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف