الأهرام
اسامة الازهرى
الحضارة فريضة إسلامية
كلمة، فقيمة، فمؤسسة، فحضارة، هكذا تمضى كلمات القرآن الكريم فى تكوين العقول الصانعة للحضارة، فعندما سمع العقل المسلم أول كلمة من الوحى فى ترتيب المصحف، وهى (بسم الله الرحمن الرحيم)، ادرك أنها رسالة موجهة إليه، وأن القيمة المركزية المفتاحية لهذا الدين هى الرحمة، فبدأ يفكر: إذا أردت تحويل هذا المعنى إلى برنامج عمل، كيف أتوصل إلى ذلك؟ فوجد بعد تفكير طويل أن الشريحة الإنسانية الأولى التى تشتد حاجتها إلى الرحمة ليست هى الطفل ولا المرأة ولا العجوز المسن، بل هى المريض، رجلا كان أو طفلا أو امرأة أو عجوزا هرما، فقرر أن يبدأ بإسعاف المريض فى المقام الأول، لأن هذا هو المهم العاجل، ثم يتحول بعده إلى النظر فى احتياجات بقية الشرائح وفى كيفية توصيل معانى الرحمة إليها، فتفتق العقل المسلم عن حشد الطاقات للمريض أولا حتى نصل به إلى حد الصحة والعافية فيلتحق حينئذ ببقية الشرائح فى ما ينبغى توصيله إلى الجميع من معانى الرحمة وصورها، فبدأت كلمة (الرحمن الرحيم) تتحول إلى قيمة اسمها إغاثة الإنسان الملهوف الموجوع، وبدأت هذه القيمة تبحث لنفسها عن صيغة مؤسسية تتبلور من خلالها، فكان أن نشأت أول دار للشفاء (مستشفى) عندنا سنة 86 هجري، أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك، وكانت مستشفى لعلاج الجذام، ثم نشأت فى تاريخنا المستشفيات الثابتة والمتنقلة، وتحولت إلى صنعة البحث العلمى فى اكتشاف العلاجات لأعقد الأمراض، وبرز عدد من عباقرة الطب المسلمين، فتدفق المسار المتصاعد من كلمة كريمة من الوحي، يمعن فيها العقل المسلم، فتتحول عنده إلى عدة قيم مركزية، تفرز مؤسسات، تصنع حضارة.

وكذلك فعل عندما سمع الكلمة الثانية من الوحي: (الحمد لله رب العالمين)، فأدرك من هذا التعبير العبقرى (رب العالمين) أنها رسالة تفتح وعى المسلم وعقله ووعيه ووجدانه، لتجعله منفتحا على العالمين، ولتشد نظره إلى ملكوت السموات والأرض، ولتلفت نظره إلى القبة السماوية والنجوم، وليخرج من ضيق نفسه إلى اتساع الكون من حوله، مع عشرات الآيات الأخرى الشارحة، التى تدعوه للنظر فى السماء، وفى سباحة الجميع فى الأفلاك: (وكل فى فلك يسبحون)، فبدأت كلمة (رب العالمين) تلقى بظلالها وأنوارها ورسائلها فى العقل المسلم، فتحولت من كلمة إلى قيمة عليا هى (السعة) والاتساع، والانفتاح، وتأكد ذلك عنده بكلمة جوهرية من كلام النبوة وهى قوله صلى الله عليه وسلم (إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، لكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)، فأدرك العقل المسلم أن السعة مقصد شريف تشير إليه آيات قرآنية كثيرة، وأحاديث نبوية كثيرة، تصريحا وتلميحا، فتحولت الكلمة إلى قيمة، تولد منها النظر فى القبة السماوية، ورصد مجموعات النجوم، ووضع الأزياج والتقاويم الفلكية، حتى ظهرت مراصد الفلك العظمي، فاكتملت دائرة الحضارة، من كلمة مركزية، تؤدى إلى قيمة عبقرية، تصنع مؤسسة ذكية، فتولد الحضارة من رحم الوحى ومعينه.

وكذلك فعل عندما سمع قوله تعالى (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس)، فتحولت كلمة (نورا يمشى به فى الناس) من كلمة إلى قيمة عليا تجعله يدرك أهمية تنوير العقول ونشر الوعى والمعرفة، فانطلق إلى تنفيذ ذلك بتشييد المدارس والمكتبات، فكان فى مصر وحدها مدارس كبرى للتعليم ألف فيها السخاوى قبل خمسة قرون كتابا عن مدارس مصر، وقلده النعيمى فألف كتابا عن مدارس الشام، اسمه (الدارس، لتاريخ المدارس)، فتحولت الكلمة إلى قيمة، أثمرت مؤسسة، فصنعت الحضارة.

ولو أردت أن استعرض هنا العشرات والمئات من الكلمات المركزية المفتاحية فى آيات القرآن الكريم، والتى حركت العقول على هذا النمط فتولدت منها قيم وعلوم ومؤسسات لطال الكلام جدا، لكن يهمنى هنا التنقيب عن هذا المنهجية الجليلة من التفكير، والتعامل الرفيع مع الوحى بما يحقق مقاصده، انطلاقا من الكلمة، إلى القيمة، إلى المؤسسة، إلى الحضارة، لعل هذا أن يكون بداية حقيقية لإعادة تشغيل العقول واستعادة الوعى المفقود والذاكرة الممسوحة، التى انهال عليها ركام التكفير والقتل والعنف حتى طمس أنوار الوحى وأفقد كل شيء معناه وحول دين الله إلى ظلام ورعب وخراب، والله من وراء القصد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف