البديل
هيثم أبو زيد
البخاري.. بين نقد العلماء وتطاول الجهلاء
هي حكمة.. أرسلها ابن عطاء الله السكندري، يؤدب بها المتعجلين، ممن يتصدرون المجالس، يتكلمون فيما لا ليس لهم به علم ولما يأتهم تأويله، وينتدبون أنفسهم لمهام لم يتأهلوا لها، ولمعارك لا يملكون أدواتها، إذ قال: “ادفن نفسك في أرض الخمول.. فما نبت مما لم يتم دفنه لا يتم نتاجه”.. وأرض الخمول في مقصد ابن عطاء تعني الابتعاد عن الضوء والشهرة والتصدر، طلبا للتعلم والتزود، وإلا كان المآل الخاسر، كالبذرة التي لم تدفن بقدر كاف في التربة، فتنبت أسرع من غيرها، لكن لا يكتمل نموها، ولا تعيش حتى تعطي ثمرها، إذ إنها تُقتلع لأقل سبب، ومع أضعف نسمة هواء، فما بالك بريح عاصف؟.
منذ أن فرغ محمد بن إسماعيل البخاري من تصنيف كتابه “الجامع الصحيح” لم يتوان أئمة هذا الفن وكبار صيارفة الصناعة الحديثة من وضع الكتاب في ميزان نقد حساس دقيق.. لعل أول انتقاد سمعه البخاري بأذنيه جاءه حين عرض كتابه على مجمع من الراسخين في العلم، على رأسهم أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعليّ المديني، فقالوا له “إن كتابك صحيح، إلا أربعة أحاديث”.. لكن أبا جعفر العقيلي ناقل الحكاية يرى أن القول في الأحاديث الأربعة كان قول البخاري لا منتقديه.
والمهتمون بعلوم الحديث يعرفون جيدا كتاب “الإلزام والتتبع” للإمام أبي الحسن علي الدارقطني، (ت 385 ه) حيث تناول ما اعتبرها عللا في بعض أحاديث البخاري ومسلم، بل إن بعض الأحاديث التي رواها البخاري، واجهت نقدا قبل أن يخط البخاري كتابه، لكن طلاب علوم الحديث، يعرفون أيضا الجهد الذي بذله الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) لرد هذه الانتقادات، ووصل ما أورده البخاري بصيغة التعليق، وضمَّن كل ذلك كتابه “هدي الساري” الذي جعله مقدمة لشرحه لصحيح البخاري.. أحاديث لم تتجاوز 110، من كتاب ضم نحو 7600 حديث، باحتساب المكرر، ونحو 2600 بحذف ما تكرر.
الانتقاد العلمي لأحاديث قليلة جدا في صحيح البخاري استمر إلى العصر الحديث، كما نجده عند ناصر الدين الألباني، الذي ضعف بعض الأحاديث البخارية، أو الشيخ محمد الغزالي الذي رفض بعض الأحاديث في كتابه الشهير “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”.
لكن كل هؤلاء المنتقدين، على تفاوت أزمانهم، واختلاف مناهجهم، تعاملوا بإجلال وإكبار مع الجهد الجبار والمنهج الصارم الذي اختاره البخاري في جمع أحاديث كتابه.. والإمام مسلم ابن الحجاج لم يقبل بكل ما رواه البخاري، لكنه يخاطبه قائلا: “دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله”.. أما الإمام الترمذي فيقول: لم أر أحدا بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل”.. وأقوال معاصريه من شيوخه وتلامذته في علمه وفضله وإمامته ودقة منهجه فوق الحصر.
لقد تعارف العقلاء والعلماء وصِنف “بني آدم” على أن من يخطئ في تخصصه لا يقال له “كذابا”، فالطبيب إذا أخطأ في تشخيص مرض، فهو مجرد مخطئ، وليس كذابا ولا مجرما.. لكن الجهول الذي رضي بجهله لا يعرف طريقا لتجديده المزعوم إلا باتهام كبار المحدثين بالكذب، وبتعمد الافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفين الحديث الذي يرونه بأنفسهم: “ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”.
يزعم أنه ينافح عن الدين.. ثم يقرر أن كل علماء هذا الدين، من فقهاء ومحدثين، ومفسرين وأصوليين، وأئمة المذاهب المتبوعة، في كل العصور الإسلامية، من عهد الخلفاء إلى يوم الناس هذا.. كلهم قدم صورة مزيفة للدين، وخالف حقائق القرآن.. أهذه منافحة عن الدين؟.. لو كان الشأن كذلك لكان العيب في الدين نفسه، باعتباره دينا لم يخرج أمة صادقة، ثم كانت نخبتها كلها على مدار 14 قرنا أطيافا من الكذابين المزورين.. لعل الملحدين والعلمانيين الذين يقولون بلسان صريح إن العيب في الدين نفسه أصدق مع أنفسهم وأشجع في مواجهة مجتمعاتهم من هذا الذي جاء يستنقذ الإسلام من علماء المسلمين.
تذببت وأنت حصرم.. مثل تقوله العرب، لمن لم يدفن نفسه في أرض الخمول كي يتعلم، فأخذه الغرور وحمية الجهل، فاعتبر نفسه “زبيبا” وهو ما زال عنبا أخضر صغيرا لم ينضج بعد في عناقيده، ولم يتعرض للشمس كي ينضج على مهل ويصبح زبيبا شهيا.. كيف يتصدر لنقد التراث من لا يحسن قراءة سطرين من أي كتاب تراثي قراءة سليمة.. كيف يتصدر لنقد البخاري من لا يعرف منهج البخاري في التحديث، ولا الفرق بين صيغة حدثنا فلان عن فلان وبين صيغة قال فلان؟.
كيف لمن لا يعرف فاعلا من مفعولٍ، ولا منصوبا من مرفوعٍ، ويجر كلماته بالضمة أن يحكم على حديث بأنه يخالف القرآن؟.. وهل مثله يفهم القرآن؟.. هل مر يوما بدروس النحو في الصف الثالث الإعدادي؟.. أليس الأولى به أن يتقن القراءة والكتابة قبل أن يصدر نفسه لنقد التراث؟.
في سفره الخالد “الكشاف”، قال الإمام الزمخشري: “الفقيه وإن برّز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِرِّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلَّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علما البيان والمعاني”.
البيان والمعاني يا زمخشري؟.. فما تقول في عييّ لا تَسلم له جملة عربية، ولا يستقيم له فهم أسطر من كتاب قديم، ولا يستدل ولا يعرف مناهج الاستدلال، ويستشهد ولا يعي وجه الاستشهاد؟.. فكيف به لو صادف كتابك العظيم “أساس البلاغة” وطالبناه بأن يقرأ منه صفحة واحدة وأن يشرح معناها؟.
من قال إن الحديث إذا كان مستغربا فهو ضعيف؟ ومن قال إن الضعيف يعني أن النبي لم يقله؟ ومن قال إن الحديث إذا خالف آية وجب حذفه؟ ومن يملك هذا الحذف؟ ومن قال إن الحديث إذا صح سنده وجب العمل بظاهره كما هو؟ إن استخراج الحكم من الحديث مهمة الفقيه لا المحدث، وكم من عالم ترك الأخذ بحديث لترجيحه حديثا آخر، أو اعتمادا على آية في القرآن، دون أن يتهم راوي الحديث بالكذب، ودون أن يقطع بأن الرسول الأكرم لم يقل الحديث.
يذكر ابن حزم في كتاب “مراتب الديانة” أنه أحصى ما في موطإ الإمام مالك من أحاديث ثم يقول: وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسُه العمل بها.
إن سلامة المنهج، أي منهج، أن يقبل الاضطراد، وأن يضم الأشباه والنظائر في حكم واحد، فمن يرفض مثلا الحديث الصحيح الذي يخبر فيه الرسول أن الشمس عند الغروب تذهب فتسجد تحت العرش، يجب أن يمد الخط على استقامته وأن يخبرنا ماذا سيعفل مع آية قرآنية من سورة الكهف تقول “فلما بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة”.. فاطراد المنهج يوجب أن نقبل النصين، أو أن نرفضهما معا، أو نؤولهما معا.
ويسوق المتذبب الجهول أحاديث وروايات يرى أن المتطرفين والدواعش يستندون إليها في كراهيتهم لغير المسلمين.. وكل دارس للحركات المتطرفة والعنفية، يعلم أن مستندهم الأول في عقيدة الولاء والبراء، وكراهية غير المسلمين، بل والمسلمين من غير تنظيماتهم هو الآية 22 من سورة المجادلة “لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عمهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون”.
فهنا يقف الجهول عاجزا، إذ لا جرأة له أن يكذب آية قرآنية، فيخضع للتأويل، فيتخبط كالأعمى، يرفض النص مرة، ويقبله مرة، ويؤوله ثالثة، ويعتبره تاريخيا مرة رابعة، ثم يهرب إلى طريقه السهل الذي يرضي الفارغين، فيسب الأئمة، ويلعن المحدثين، ويسخر من البخاري.. ثم يمعن في الاستخفاف بمعجبيه، فيعلن أن حذف بعض الأحاديث من البخاري سيوقف العنف الديني أو يخففه، ثم ينتفخ، فيدرج نفسه مع رواد التنوير الأعلام في القرن الماضي، من محمد عبده، إلى طه حسين وعلي عبد الرازق، وصولا إلى نصر حامد.. ولو أنصفناه من نفسه، ما ذكرناه في جملة مفيدة مع من يتقن درس الممنوع من الصرف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف