الأخبار
جمال فهمى
الطريق إلي هزيمة «الطاعون»
هذا الشهر احتفل قطاع (ليس كبيرا) في الأوساط الأدبية والثقافية الفرنسية بمرور97 عاما علي مولد المفكر والأديب حامل »نوبل»‬ البير كامو ذلك الذي أثارت سيرته ومواقفه، ومازالت تثير حتي الآن، عاصفة من الالتباسات والشكوك، فهو ـ مثلا ـ علي تمرده الذي ميز حياته القصيرة (فقدها في حادث طريق قبل أن يبلغ الـ47 من عمره)، وإعلانه الدائم انحيازه للمقهورين والضعفاء لم يكن موقفه واضحا ولا مشرفا من الجريمة الاستعمارية الطويلة والقاسية التي ارتكبها الفرنسيون أبناء جلدته في الجزائر، وهو ما دفع مفكرنا الكبير الراحل إدوارد سعيد لأن يصف كامو بأنه »‬رجل أخلاق اتخذ موقفا لا أخلاقيا».
علي كل حال، ولسبب يبدو غائما في رأسي حتي ساعة كتابة هذه السطور، فإن أجواء رواية »‬الطاعون» التي كتبها هذا الأديب المثير للحيرة هيمنت علي وجداني بعدما استحضرتها وأعدت قراءتها.. فأما حكايتها فهي عن غزو هذا الوباء القاتل لمدينة وهران الجزائرية (ولد »‬كامو» وعاش قسما كبيرا من حياته القصيرة غير بعيد عنها).
وقد عرضت صفحات الرواية بإتقان كيف أضحي خطر الموت الجماعي سببا لنوع من الوحدة ربطت بين السكان بأنواعهم المختلفة، بمن فيهم المستوطنون الفرنسيون، وسحبت تناقضاتهم وصراعاتهم إلي الظل ولكن علي نحو مؤقت ومن دون أن تلغيها طبعا، بدليل أن ألبير كامو نفسه لم ينس أنه فرنسي يستوطن بلدا ليس بلده، ومن ثم ظل وهو يحكي عن الوباء يشير إلي السكان الأصليين علي أنهم »‬عرب» فحسب، فالعربي في الرواية يمرض ويموت لكنه لا يحمل أي اسم كما سائر خلق الله من البشر!!
أعود إلي الحكاية، التي تشبه أجواؤها ما نعيشه حاليا ونحن نواجه الآن طاعونا هو خليط من عنف وإجرام وإرهاب وبؤس شامل ينحر في قلب الوطن مجتمعا ودولة، ونجاهد (أنفسنا أولا) لكي ننتصر عليه ونبرأ منه.. الحكاية كما قلنا، تجري وقائعها في مدينة وهران حيث تتناقل الصحف المحلية خبر ظهور أعداد هائلة من الفئران تسرح في الأزقة والشوارع، وإذ تبدو الإشارة واضحة علي أن شبح الوباء يداهم المدينة فعلا، لاسيما وقد بدأ ظهور بعض جثث القتلي، فإن نوعا من الهيستريا يتفشي بين السكان عندئذ تضطر السلطات للتخلي رويدا رويدا عن الإنكار ويكون تدخلها في أول الأمر، بدعوة أهل المدينة إلي اصطياد الفئران وجمعها وتسليمها لكي يتم حرقها، غير أن هذه العملية تفضي إلي نتيجة عكسية تماما فهي تؤدي إلي زيادة انتشار الوباء بسرعة كبيرة بينما السلطات مازالت تأبي الاعتراف.
غير أن طبيبا فرنسيا يدعي »‬ريو» يعيش في المدينة حياة ناعمة معزولا في الترف والراحة بعيدا عما يكابده السكان الأصليون (العرب)، يكتشف ذات يوم أن بواب عمارته الفخمة يسقط ميتا فجأة بعد معاناة قصيرة من أعراض تشبه الحمي، ويستشير الطبيب زميله »‬كاستل» ويتوصلان معا إلي أن البواب مات بالطاعون وأن الوباء صار حقيقة قائمة تستعصي علي الإنكار.
يجتمع الطبيبان مع زملاء آخرين في المدينة ومع كبار المسئولين الحكوميين فيها، لكن هذه الاجتماعات لا تفضي إلي شيء لأن أكثر هؤلاء يصرون علي أن ضحية الوباء مجرد شخص واحد فقط، بيد أن الحقيقة تداهم الجميع عندما يبدأ سقوط القتلي بكثافة ملحوظة ويتفاقم الوضع يوما بعد يوم، بل ساعة بعد أخري ما يجبر السلطات علي الاعتراف بالأمر الواقع، ومن ثم تفرض علي المدينة حصارا صارما وتمنع الدخول والخروج منها تماما.. عند هذا الحد تتحول الرواية إلي تصوير تفاصيل هذا »‬التوحد الاضطراري» في مواجهة الخطر، كاشفة عن صراع من نوع مختلف عما كان قائما قبل غزو الوباء، فكل فريق من الأفرقاء (السلطات والمواطنين والأطباء) يحاول القيام بما يراه مناسبا للتعامل مع الوضع، ولكن علي نحو قريب جدا من السوريالية وبعيد بمسافة واضحة عن المنطق.
إذن يبدل الطاعون معالم العلاقات في المدينة ومعالم الأشخاص المحشورين فيها وتتكشف تحت وطأته حقائق الذهنيات والطباع المختلفة للناس، فهذا رجل مشغول بكيفية الهروب والذهاب إلي زوجته في باريس غير عابئ بأنه سوف يحمل المرض معه.. وذاك قسيس يحاول أن يستغل الوباء لكي يقنع الناس بأن الطاعون ليس إلا تعبيرا عن غضب الله علي مخلوقاته البشرية.. كما لم يخل المشهد في المدينة من مجرم يراكم الثروة مستغلا رعب الناس.. ومع ذلك ثمة لحظات يتخلي فيها الجميع عن مصالحهم وصغائرهم ويتآلفون ويتعاضدون لكي يساعدوا بعضهم بعضا.
أظننا نحتاج حاليا إلي شيء من هذا النوع لكي نهزم الطاعون.. صباح الخير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف