الأهرام
يحيى حسين عبد الهادى
سلامٌ على الشعب المُتَّهَم
كان المرابطون فى ميدان التحرير فى الأسبوع الأول من ثورة يناير يغالبون بَرد الشتاء وغدر الفلول بحلقات السمر الممتدة حتى مطلع الفجر.. معظمهم من المصريين الشرفاء (حقاً) الذين لم ينخرطوا فى العمل السياسى من قبل ولكنهم ضَجُّوا بالفساد الفاجر فلما أومضت شرارة الثورة تدفقوا على الميدان وتمسكوا به كملاذٍ أخيرٍ لإنهاء الكابوس الجاثم على أنفاس مصر.. كانوا يقتاتون على قُرَص الجبن والعجوة التى ينجح البعض فى تسريبها، بينما الإعلام المباركى الكاذب يتحدث عن وجبات الكنتاكى والبوفيهات المفتوحة.. ومع هطول الأمطار بدأ البعض ينصب أغطية بلاستيكية بديلاً عن الخيام .. تكونت بيننا صداقات ..

أحدهم شابٌ من قنا يحمل مؤهلاً متوسطاً .. أرزقى يعمل باليومية .. عندما اندلعت الثورة أسرع إلى الميدان وفى جيبه بعض الجنيهات التى ظن أنها تكفيه مؤونة اليوم أو اليومين الذين سيقضيهما فى الميدان.. امتد الاعتصام ولا أحد يعلم متى ولا كيف سينتهى .. يحتاج من آنٍ لآخر أن يمتع نفسه بطبق كشرى من خارج الميدان .. طلب منّى فى حياءٍ أن أبيع هاتفه المحمول لأىٍ من أصدقائى المشاهير الذين كان يرانى بصحبتهم.. الهاتف من النوع البدائى الذى لا يُباع ولا يُشترى .. لم يقبل جنيهاتى القليلة إلا بعد أن أقسمتُ له أنها سُلفة وليست مساعدة وطفرت من عينه دمعة التعفف المعروفة فى بلدٍ معظم سكانه تحت خط الفقر .. انتبهنا إلى أن الميدان ممتلئٌ بأمثال هذا الشاب الأرزقى الذين فاجأتهم أحداث الثورة وامتداد اعتصامها..

قال لى الدكتور عبد الجليل مصطفى إن ستر حاجة هؤلاء الآن واجبٌ وطنىٌ ودينى، أنت وجهٌ مألوفٌ ومعروفٌ لمعظمهم ولن يتحرجوا من قبول المساعدة منك، وأعطانى حوالى 14 ألف جنيه من فاعل خير (استحى أن يقول إنه هو) .. بدأتُ المهمة بعد العشاء متنقلاً بين الخيام البلاستيكية.. كلما تأكدت من استحقاق أحدهم وانتحيتُ به جانباً لأدُس فى يده هدية إخوته الميسورين خارج الميدان، رفض بشدة وطفرت من عينه نفس الدمعة.. دمعة التعفف .. وهكذا تكرر نفس المشهد وطفرت نفس الدمعة من مئات العيون.. إلى أن عُدتُ بعد صلاة الضحى لعيادة الدكتور عبد الجليل على مشارف الميدان .. عُدتُ بالمبلغ كاملاً لم ينقص منه جنيه واحد.. كانت أيام الثورة الثمانية عشرة فى ميادين تحرير مصر هى المرآة الحقيقية لهذا الشعب العظيم .. وحكى العالمُ كله عن ثورة المصريين المتفردةً فى تحضرها الذى يليق ببلدٍ ضاربٍ فى عمق التاريخ .. كان ميداناً بلا خطيئةً.. إلى أن سقط النظام .. فإذا بالإعلام المباركى يُلملم أشلاءه ويعود على استحياءٍ وهو غير مُصَّدِقٍ قدرة هذا الشعب على التسامح مع جلاديه وسارقيه .. شيئاً فشيئاً تمدد الإعلام المباركى وتَجَّبر وعاد لينتقم .. وطّوَّر اتهامه للشعب من مستوى الكنتاكى إلى الخيانة والعمالة.. وصارت الثورة الطاهرة التى تحدث بعظمتها العالم نكسة .. وصار كل من شارك بها (وهم ملايين المصريين) خائناً وعميلاً ويقبض بالدولار .. هكذا دون خوفٍ من عقابٍ أو محاسبةٍ على هذا القذف الجنائى المؤثم .. ومع اشتعال أزمة السكر مؤخراً وصل التطاول على الشعب المصرى إلى قاعٍ غير مسبوقٍ فى تاريخ مصر ولا العالم .. أن يُسَّبَ شعبٌ بواسطة إعلامه.

أسوأ أنواع التجارة هو التجارة بدماء الشهداء.. انتفخت أوداج المذيع وهو يصرخ (اتقوا الله فى هذا البلد .. أبناؤنا يُستشهدون وأنتم منشغلون بالسكر؟ .. حرامٌ عليكم) .. ظننتُ للوهلة الأولى أن الخطاب مُوَّجَهٌ لحيتان الفاسدين الذين يخزنون قوت الشعب ويُعطشون السوق ليراكموا الأرباح ويضاعفوها.. فإذا بالمقصود بغضبة المذيع هو المواطن الذى يبحث عن السكر فلا يجده.. مع أن الشهداء من الضباط والجنود هم أبناء هذا الشعب لا أبناء ذلك المذيع.. ووصل اللا معقول بآخر لدرجة اتهام من يشكو من أزمة السكر بأنه خائنٌ وعميلٌ ويقبض بالدولار .. مع أن من يقبض بالدولار لا يشكو من أزمة سكر.

فى ذروة معارك حرب الاستنزاف تروى محاضر اجتماعات مجلس الوزراء كيف أن عبدالناصر عرض على اجتماع المجلس عيناتٍ من أرغفة الخبز من أحياء القاهرة المختلفة وأعطى وزيرَ التموين مهلةً حتى الاجتماع المقبل لتحسين نوعية الخبز .. وقال بوضوحٍ إن انشغال الجيش بالمعركة لا يبرر تقاعس أى مسئولٍ عن أداء واجبه فى توفير احتياجات الجبهة الداخلية بجودةٍ تليق بالمواطن المصرى .. لم يقل أحدٌ أيامها (خبز إيه والبلد بتحارب).. هذا الشعب العظيم تاريخٌ من التضحية لا ينتظر أن يُعلمه أحد .. هو يُعلِّم الدنيا .. يتقاسم اللقمة إذا تعرض لحصارٍ خارجى .. أما إذا حدثت أزمةٌ لأسبابٍ داخليةٍ بحتة، هى مزيجٌ من فسادٍ وفشل، فمن حقه بل من واجبه أن يطلب محاسبة المسئول.. ولتُقطع الألسنة التى تتطاول عليه .. تأدبوا فى حضرة الشعب .. عيبٌ .. وعار.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف