اليوم السابع
محمد على يوسف
زى المرجيحة!
كلما أخذت أولادى إلى متنزه أو مكان مفتوح يلهون فيه ويتأرجحون، لفتت نظرى تلك الأراجيح التى يجتمع عليها الأطفال، ما أشبهها بحياتنا وما أشبه كثيرا منا بأولئك الصبية المتأرجحين، هل كان ذلك المطرب الشعبى يقصد فى تشبيه أغنيته الشهيرة ذلك المثال الوجودى العميق؟ لست أدرى، لكن ما لا شك فيه أن كلمات أغنيته حملت جزءا من الحقيقة، الدنيا زى المرجيحة وسكانها هم المتأرجحون إلا من رُحم، تأمل مثلا هذه «الزحليقة»، ألا يذكرك المتزحلقون عليها والهاوون من أعلاها إلى أسفلها رويدا رويدا فى البداية ثم تتسارع أجسادهم الصغيرة حتى تصل إلى الأرض وقد صعدوا منذ قليل درجات سلمها كلها حتى كانوا على قمتها قبل أن يختاروا السقوط بكامل إرادتهم، ألا يذكرك هؤلاء بأولئك المتساقطين عن مبادئهم السامية وأفكارهم الراقية التى اختاروا أن «يتزحلقوا» عليها ويتنازلوا عنها واحدة تلو الأخرى حتى تخلوا عنها كلها ووصلوا أيضا إلى القاع، قاع «الزحليقة»؟!

وانظر لتلك «المرجيحة» التى يجلس عليها أحد الصبية باسترخاء وتلذذ بينما يتفانى أصدقاؤه من خلفه فى دفعها ليرتفع ضاحكا مستمتعا، لكنه لا يلبث أن يعود إلى سابق وضعه مرة أخرى فيدفعونه من جديد وقد نفرت عروقهم وتعرقت أجسادهم لفرط المجهود الذى يبذلونه، ليظل ذلك الجالس المسترخى مستمتعا بارتفاعه إلى عنان السماء بفضل دفعاتهم وجهدهم.. ألا يُذكرك مشهدهم بأولئك البؤساء الذين يرتفع غيرهم على أكتافهم وبفضل دفعات جهدهم واجتهادهم، ويرتقى الوصوليون على سلم إنجازاتهم، بينما لا ينالهم هم إلا التعب والنَّصَب؟! ومشهد ذلك الطفل الجالس المستريح المستمتع بدفعات الآخرين التى لا يرتفع إلا من خلالها ألا يذكرك هذا المشهد بأولئك «التنابلة» المتنطعين الذين لا قيمة لهم ولا فائدة تُرجى منهم ولا يُعرف لهم ذكر إلا عبر بذل الغير وتضحيات الناس لأجلهم وكأن الكون لا يدور إلا حولهم ولا هَمَّ للخلق إلا رفع درجاتهم؟! وياليتهم يبقون فى تلك الدرجات ولكنهم لا يلبثون إلا ويرجعون لمكانهم بعد حين، طالبين المزيد والمزيد من الدفعات والتضحيات ليظلوا على ارتفاعهم الزائف وقمتهم المؤقتة. هناك أيضا تلك «المرجيحة» المستديرة التى يجلس فيها الأطفال ثم تتحرك بهم فى حركة دائرة مستمرة، وكلما ازدادت السرعة ازدادت معها متعتهم حتى ينزلوا منها وقد انتقل الدوران إلى رؤوسهم وبدا ظاهرا على أجسادهم المتثاقلة التى تكاد تسقط لفرط اختلال توازنهم الناشئ عن الدوار الذى أصابهم، هذه اللعبة تحديدا محيرة بالنسبة لى، فلماذا يحرص طفل على أن يصيبه الدوار ويختل توازنه؟! ما المتعة فى ذلك؟! كيف يؤذى إنسان نفسه بإرادته؟!

الإجابة قد تكمن فى كونه طفلا، لكن ماذا عن أمثالهم من الكبار الذين يحرصون على امتطاء كل ما يدير رؤوسهم ويذهب بتوازنهم أدراج الرياح؟! ما الذى يدفع شخصا بالغا ليفعل بنفسه مثل ذلك بأى وسيلة كانت، حتى تراه فى نهاية الأمر يتمايل ولا يكاد يقيم جسده بشكل مستقيم، أى متعة فى ذلك؟! ربما كانت الإجابة عن تلك الأسئلة هى نفس إجابة ما سبقها، إنهم أيضا أطفال غير مسؤولين وإن شابت رؤوسهم وطالت لحاهم، أما تلك الأرجوحة التى تبدو من بعيد فهى أحبهم إلىّ، تلك التى تبدو هنالك كالميزان تتصاعد كِفتاه بالتبادل، إنها لعبة تكافلية يستمتع فيها الطرفان بشكل شبه متساوٍ مادام وزن كل منها يكافئ وزن الآخر، لكن ماذا عن ذلك الميزان إذا احتل أحد طرفيه طفل بدين ثقيل الوزن؟! ألا ترى استماتة هذا الطفل النحيل على الطرف المقابل كى يتوازن معه بلا فائدة؟! ها هو الميزان يتوقف وتتوقف معه متعة اللعب ولذته والسبب واضح معروف، إنه عدم التكافؤ، ألا يذكرك هذا المشهد بعشرات المشاهد المماثلة فى حياتنا والتى يبدو فيها بوضوح فشل أى علاقة اجتماعية أو سياسية قائمة على هذا المبدأ الظالم، مبدأ عدم التكافؤ وغياب التعادلية المؤدى دوما لنتيجة واحدة، اختلال الموازين، كل الموازين؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف