البديل
اسلام أبو العز
“القدس” وأقداسهم.. الحق والأباطيل
“عندما أطلقَ النارَ كانت يد القدس فوق الزناد

(ويدُ اللهِ تخلعُ عن جسدِ القدسِ ثوبَ الحداد.

ليس من أجل أن يتفجَّرَ نفطُ الجزيرة)

ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض

من حول مائدة مستديرة

ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء”

أمل دنقل- من قصيدة “سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس”

أتذكر من سنوات الطفولة مشهداً في أحد المحال التجارية يقع في بأحد ضواحي القاهرة، أطلق عليه أصحابه ذوي الأصول الفلسطينية “القدس”، وفي خلفية الكلمة على لافتة المحل صورة شائعة للمدينة ومسجدها ذو القبة الذهبية؛ ويبدأ المشهد برجل ملتحي يقول للعاملين أن ما على اللافتة ليس المسجد الأقصى، وأنهم قد يتسببوا في “فتنة الناس” وربما تضليلهم، وبعد ابتسامات على مضض من العاملين إزاء ما يقوله صاحب اللحية المبتذلة، برز صاحب المحل بالقول القاطع، أنهم أكثر من غيرهم يعرفوا القدس ويحفظوها، وأن القدس ليس المسجد الأقصى فقط.

ما حدث في هذا اليوم دفعني بفضول الطفولة أن أبحث عن “القدس”، وأعرف عنها وعن جغرافياتها ومعالمها وتاريخها ليستقر في نفسي ووعيي ما هو أبعد من القبة المذهبة (مسجد قبة الصخرة) أو الخضراء (المسجد الأقصى)؛ وتصبح “القدس” مرادف مادي وروحي لمعنى الحق وقيمته، وكذلك معنى اغتصاب الحق، وأيضاً معنى المقاومة ونُصرة الحق والدفاع عنه والتمسك به، كاختصار غير مُخل لقضية فلسطين؛ فالقدس لم تعد الأن -بعد سنوات من التجريف الثقافي والوجداني الممنهج- مرادف لقيم ومعاني موحدة في وعي الكثيرين، فمن ناحية أصبحت تمثل ما لكل أصحاب دين أو طائفة من مقدسات بها، أو حسب سياسات المهادنة والتسوية تقع ما بين “القدس الشرقية”، و”القدس الغربية” و”القدس القديمة” –التي لا تجاوز مساحتها 1 كم مربع- وهو ما لا يقتصر فقط عند الحدود الجغرافية والتقسيم المكاني، ولكن أيضاً في ممارسة الأفكار وعلاقتها بالواقع الذي يتغير بوتيرة تجتاز حدود الإنسانية وبديهياتها، والتي من أولها التمسك بالحق لكونه حق، فأصبح هناك من يقرر أن فلسطين حدودها تقف عند حدود 1967، وكذلك حدود القدس التي أصبحت منذ ذلك الزمن “شرقية” يسعى إليها من يسعى بالتفاوض والتسوية لجعلها فلسطينية تحت مراقبة ورعاية صهيونية، في مقابل “القدس الغربية” التي يريدونها إسرائيلية خالصة، في وقت يصمم فيه الصهاينة مع كل نفس أن القدس التاريخية هي عاصمة دولتهم الأبدية.. هذا أيضاً يجعل فلسطين تختلف بين أكثرية ترى أنها ما يتفضل به المحتل بالتنازل عنه، وأقلية ترى أن فلسطين هي الفيصل ما بين تمام الحق وتمام الباطل.

وعلى أنه لا يجب علينا أن نستوحش طريق الحق لقلة سالكيه في وسط التعتيم والتناسي والإهمال الذي يتناوب بانتظام على جوهر وقيمة القدس الإنسانية والدينية، فأنه أيضاً هناك حق يراد به باطل فيما يخص القدس؛ فمثلما بخس الكثيرون ما تمثله القدس وفلسطين كقيمة للحق، فأن هناك بعض الذين اتخذوا من هذا الحق طريق لباطل يخضع لأهواء ومصالح وموائمات هذه الجماعة أو تلك الدولة، ويستخدم هذا الحق كشعار فقط، عكس كل ممارساتهم التي تضيع فلسطين وقضيتها و تحصرها وتُسطحها من حق إنساني إلى شكل من أشكال التراث الكرنفالية الدعائية، ليتم إسقاطها من أولوياتهم، وتستبدل “بوصلة فلسطين” باتجاهات أخرى تعليّ من قيمة الباطل هنا أو هناك، على حساب إسقاط القدس والتماهي مع خطاب أصحاب التسوية والتقارب مع العدو الصهيوني، فالقدس حسب ما أفهم وما أقتنع به تمثل الحق، والحق واضح دون مواربة أو تضليل، والحق لا يضيع طالما أن ورائه مطالبة به، لا يرتهن لمصالح ضيقة ومساومات وقتية، بل حتى لا يخضع هذا الحق لحدود جغرافية وحدود، بل يتجاوز هذا في رحابة المبدأ والقيمة الإنسانية.. وهنا تصبح القدس التي أعرفها غير كل “قدس” يتحدث عنها أصحاب المساومات والسلام الدافئ.

لكل ما سبق يكون إحياء “يوم القدس” بهذا المعنى المقاوم والنصير للحق الفلسطيني ولكل حق إنساني في أي بقعة من بقاع العام، التعبير والرد المناسب عن رفض الصهيونية واحتلالها للقدس وفلسطين وكل ما يوازي ويماثل هذا في جميع أنحاء العالم من المستكبرين ضد المستضعفين، ومقاومة هذا الاستكبار ونصرة المستضعف بكافة الطرق والسُبل، وليس كما الحال الأن من حيث التعاطي مع الاستكبار تحت مبررات شتى أو ظروف تجعل من العدو صديقاً كما يرى الكثير من حكام الدول العربية في مناخ عام يشي بمدى التقارب والتعاون والتحالف بين دول عربية والكيان الصهيوني؛ فحتى إذا تم إسقاط فلسطين كحق ومبدأ من أجنداتهم السياسية، فإنه بالمقابل بإحياء هذا اليوم نقاوم هذا التخاذل ونذكر أنفسنا والجميع بقيمة القدس الإنسانية والدينية، ونتذكر جميعاً أن الحق لا يُبدل ولا يُستبدل وإن لحق بأسمه الواحد معاني كثيرة باطلة.



تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف