الأهرام
بهجت قرنى
شبه دولة؟
عندما أعلن الرئيس السيسى بعد سنتين من حكم مصر واطلاعه على أحوالها ـ أن مصر شبه دولة، شعر الكثيرون بصدمة المفاجأة. بل إن بعضهم شعر بالمهانة وكرر العبارات المعروفة أن مصر من أول تجارب الدولة فى العالم. وهذا صحيح. وأن الحضارة المصرية العريقة تعود إلى آلاف السنين. وهذا أيضا صحيح. وبالرغم من أن هذه الردود تؤكد عراقة الدولة المصرية، فإنها تلفت النظر أيضا إلى شيخوختها، والشيخوخة إذا لم يتم الاهتمام بها ومعالجتها بآليات التجديد اللازمة تتحول إلى ضعف ثم عجز.المطلوب إذن الاعتراف بالواقع كأنجح وسيلة لمواجهته. لأن واقع مصر كدولة نامية يزداد سوءا، حتى دون أن نقارنها ببلاد بدأت من نفس المستوي.

فى الحقيقة فى أوائل سنة 2010، أى قبل احتجاجات الربيع بعام. نظمنا الجامعة الأمريكية بمناسبة بدء الاعداد لتقرير الذكرى العاشرة لبرنامج الامم المتحدة الانمائى عن التنمية العربية ورشة عمل للتحذير من تفاقم مشكلات التنمية حتى تؤثر على هيكل الدولة نفسها وأدائها. وفى تعليقها على ورشة العمل هذه اختارت جريدة المصرى اليوم العنوان «أساتذة العلوم السياسية» بالجامعة الأمريكية يحذرون من دخول مصر قائمة الدول العربية الفاشلة». (المصرى اليوم السبت 16 فبراير سنة 2010). كنا نحذر حينئذ ـ أى من أكثر من ستة أعوام ـ من تفاقم الأمور، حيث أكدت لمراسل المصرى اليوم آنذاك أن مصر ليست بعد دولة فاشلة ولكنها دولة هشة فى كثير من القطاعات.

بالرغم من بعض الاثارة الصحفية فى عنوان المصرى اليوم، فإن تحليلنا كان قائما على مؤشرات علمية فى مقياس ذائع الصيت ذى 12 مؤشرا ويتم تطويره منذ انتشاره فى سنة 2005. وهو لايقتصر على النواحى السياسية والعسكرية فقط مثل الحالة المدنية أو شرعية الحكم وحكم القانون أو التدخل الأجنبى بل يتعدى هذا الجانب السياسى العسكرى إلى الجانب الاقتصادى والاجتماعى فى ما لا يقل عن 8 مؤشرات محددة من عدم التوازن فى التنمية الاقتصادية إلى الضغوط السكانية، الهجرة من الريف إلى المدن وبالطبع حالة الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وطبقا لهذا المقياس ومؤشراته الكلية، فإن الصومال مثلا ـ وهى عضو فى الجامعة العربية ـ تأتى فى أول قائمة الدول الفاشلة، ويلحق بها الآن فى قائمة الدول العشر الأكثر فشلا فى العالم بأسره ـ وليس المنطقة العربية فقط ـ دول غنية بالموارد مثل العراق، السودان واليمن غير السعيد.

أين تقع مصر حاليا فى هذا المجال؟ بالرغم من الآمال الضخمة التى صاحبت الربيع العربى تم تنحى الرئيس الأسبق مبارك. فإن وضع مصر من ناحية الهشاشة لم يتحسن، بل فى الواقع ازداد سوءا بسبب تدهور الوضع الأمني، تراكم المشاكل الاقتصادية والانفلات السياسى منذ بداية سنة 2010، ثم عدم قدرة الحكومات المتعددة على مواجهة هذه المشاكل المتعددة، وفى مقدمتها بالطبع البطالة أو استمرار الفساد. النتيجة أن ترتيب مصر فى السنوات الست 2009 ـ 2015 فى مقياس الدولة الهشة/ الفاشلة تدهور من المرتبة 43 إلى 38، ولكنها فى وضع أفضل نسبيا مقارنة بدول مثل ليبيا التى تدهورت فى الترتيب بـ 87 درجة (من 112 إلى 25) وحتى تونس التى تدهورت بـ 35 درجة (من المرتبة 121 إلى 86). ولكن لا يجب فى هذا الصدد القفز على المشاكل لنقول إن الربيع العربى هو المسئول عن كل هذا. نعم تفاقمت مشاكل الأمن والاقتصاد كما نعرف جميعا وكما يحدث فى كل المجتمعات التى تمر بفترة تحول اجتماعى خارج الاطار العادي، ولكن هذه المشاكل كانت متأصلة فى الواقع المصرى بأعوام قبل الربيع العربي، بل إن هذه الاحتجاجات لم تكن سببا فى هذه المشكل بل فى الحقيقة انعكاس لها.ولذلك فإننا نتعدى الآن الناحية المؤسسية الرسمية فى الدول لنتكلم عن الأداء الفعلى لهذه المؤسسة التى نسميها الدولة، كما يدل على ذلك شيوع مفهوم الحوكمة لدى البنك الدولى وغيره من المنظمات الدولية، داخل وخارج الأمم المتحدة. ويتعدى مفهوم الحوكمة هذا مفاهيم قريبة منه شكليا مثل الحكومة أو حتى نظام الحكم، فحكومة الببلاوي، محلب أو شريف اسماعيل تأتى وتذهب، كما أن نظام الحكم من مبارك إلى الإخوان مع مرسى مثلا جاء وذهب، ولكن مشاكل الحوكمة مستمرة. والحوكمة هى فى أبسط معانيها هى إدارة التحديات التى تزداد تشعبا بين القطاعات المختلفة فى الداخل ثم بين الداخل والخارج. أساسها إذن هو النظرة الكلية للأمور، مثلا مشكلة ريجينى لا ترتبط فقط بفرد ـ مهما كانت أهميته ـ ولكن بصورة مصر فى الخارج، وتأثير ذلك على مستوى السياحة والاستثمار الأجنبى الذى تحتاجه مصر للمساعدة فى الخروج من كبوتها. دون هذه النظرة الكلية للأمور ـ التى هى أساس الحوكمة ـ لا نستطيع أن نفهم لماذا أدت شرارة بوعزيزى الذى أضرم النار فى نفسه فى الجنوب التونسى أن تنتشر وتصبح حريق الربيع العربي، فهى عكست شعورا عاما فى المنطقة العربية يربط بين بطالة المتعلمين، وإهدار الكرامة فى أقسام الشرطة ثم الفساد المتنامى الذى يزيد الهوة بين فاحشى الثراء والمعدمين الذين يعيشون على الخبز المدعم.

الدولة الناجحة ـ التى هى دولة فعلا ـ هى التى تستطيع الإحاطة بالتحدى فى جوانبه المختلفة: من قمة الهرم السياسى إلى المستويات الدنيا، والإلمام بالترابط والتشابك، داخليا وخارجيا. كانت هذه النظرة الكلية مطلوبة فى الماضى وأصبحت مع العولمة ضرورة، ليس على مستوى اقتصادى أو سياسى فقط، بل ما هو أهم أى الارتباط بينهما ومعالجته. فى هذه الحالة نتعدى مرحلة «شبه دولة».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف