التحرير
محمد سليمان
صعود وسقوط قوة مصر الناعمة
(1)
شاهدت منذ عدة أيام فيديو لأحد أهم المؤديين على يوتيوب (علاء وردى) أثناء تقديمة فيديو غنائى حول أهم (42) أغنية عربية منذ بداية القرن العشرين وحتى عام 2015. كان من المتوقع أن يكون الطغيان الرئيسى للأغانى المصرية منذ عام 1920 وحتى نهاية حقبتى الستينات والسبعينات، على يد سيد درويش، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وصباح، فريد الاطرش. تأتى حقبتى الثمانينات والتسعينات بدخول على استحياء للأغانى الشامية والخليجية والجزائرية فى قائمة علاء وردى، وهو ممثل واضح لمزاج شباب الوطن العربى فى وقتنا الحالى. فى مطلع الألفية الجديدة، تحول المزاج العربى لصالح الأغانى الخليجية والشامية بنسبة تعادل تذوقه واستماعه للأغانى المصرية الممثلة فى عمرودياب وشيرين وأنغام وحكيم. الخمس سنوات الأخيرة (2010-2015) ابتعدت الأغنية المصرية عن ذوق المواطن العربى، وتربعت على القمة أغانى الخليج والمتأثرين بالغنى الخليجى.

(2)
استفادت الثقافة المصرية وتأثيرها فى محيطها العربى بالاحتلال الإنجليزى لمصر، وحكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. قدم الاحتلال الإنجليزى مكتسبات حضارية وثقافية عديدة، وأهمها السينما. ريادة مصر فى صناعة السينما أتاحت لها فرض إنتاجها الفنى والسينمائى فى أرجاء المنطقة العربية. أصبحت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب سفراء مصر غير الرسميين والقادرين على تغيير العقل العربى. لعبت الأناشيد الوطنية الحماسية التى لحنها عبد الوهاب وغناها عبد الحليم حافظ أهم أداة لنشر الأيدلوجية الناصرية وزعامة عبد الناصر للمنطقة العربية. أناشيد (الله أكبر، والله زمان يا سلاحى، فدائى، أم البطل) كانت الدعم الرئيسى لتأكيد قوى مصر الناعمة (الأيديولوجية) فى المنطقة العربية.

(3)
تأثرت مصر بظروف هزيمة 1967 واحتلال سيناء وسقوط زعامة عبد الناصر فى الأوساط المحلية والعربية. انتقل مركز التأثير الثقافى إلى بيروت، مع خروج العديد من الفنانين المصريين لبيروت لظروف الحرب. بدأت الدول الخليجية فى استيعاب قوة النفط ومدى تأثيره فى الدول الكبرى. اعتمدت الدول الخليجية على المهنين المصريين (مهندسون، أطباء، معلمون، محاسبون، وغيرهم) من أجل بناء دولهم النفطية الوليدة. بعد حرب 1973 ابتعدت مصر تدريجيًا عن المحيط العربى، وتراجع تأثيرها المباشر فى المنطقه. أقر السادات اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل فى 1979، والتى كلفتها خروج مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس العاصمة، ومقاطعة الدول العربية. لم تتحرك مصر فى أزمة اجتياح لبنان 1981، ومشاركة مصر الرئيسية فى عملية تحرير الكويت، جاءت بهدف داخلى وهو الحصول على مساعدات مالية لمساعدة الاقتصاد الداخلى المتعثر، ودفع المجتمع الدولى لتخفيض الديون المصرية. فى أعقاب حرب الكويت، بدأت الدول الخليجية فى الانفصال الثقافى والخروج من التماهى مع الثقافة المصرية. بدأت المسلسلات والاغانى الخليجية تنتشر على استحياء، لكن نفوذ الثقافة المصرية وريادتها كانت فى المقدمة.

(4)

مع دخول الألفية الجديدة، ظهرت شيخوخة نظام مبارك، وعدم ملاءمة النظام لاحتياجات المجتمع للتغير ومواجهة حقيقة وجود عالم عربى مركزه لا يتواجد فى القاهره. بالتبعية تراجعت الثقافة المصرية فى أوساط المصريين، وحلت محلها الثقافة التجارية التى لا تبنى قوة ناعمة ولا تؤدى غرضًا. تواكب مع صعود أفلام السبكى على قمة إيرادات المواسم السينمائية فى مصر، صعود مماثل فى الدراما والأفلام والأغانى الخليجية. انتقلت دبلجة أفلام ديزنى بالعربية -أحد أهم مشكلات وعى الطفل العربى- من الدبلجة بالعامية المصرية إلى العربية الخليجية بأحد مقرات شركات الإنتاج فى دبى. تراجع تأثير المسلسلات المصرية ومساحة مشاهدتها فى الفضائيات الخليجيه. أصبحت أهم شروط عرض المسلسلات المصرية على الفضائيات الخليجية هو الامتناع عن تشويه صورة الخليجيين أو التعرض إلى الثوابت الخليجية، ورضخت الثقافة المصرية طبقًا لشروط السوق المفتوح التى تتيح لأموال الخليج التحكم فى منتجاتنا الثقافية.

(5)

يمكننا ربط انهيار تأثير الثقافة المصرية فى الأوساط العربية مع مطلع العقد الثانى من الألفية الثانية، بحالة الاضطراب السياسى الذى تمر به مصر منذ سقوط مبارك فى ليلة 11 فبراير 2011. نظرًا لخوف الخليجيين من انتقال الحمة الديمقراطية من مصر إلى الخليج، تم استثمار الكثير من أجل كبح جماح الثورة المصرية، من خلال العديد من وسائل الإعلام. القنوات الخليجية (الإخبارية والثقافية) الموجهة للمشاهد المصرى تمثل مصالح الدول الخليجية فى الشأن المصرى. انتقلت مصر من كونها دولة فاعلة مؤثرة فى محيطها العربى والإقليمى إلى دولة مفعول بها، ويؤثر على قرارها الدول الخليجية المهيمنة إعلاميًا (السعودية، الإمارات، قطر).

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف