التحرير
وفاء صبرى
تكلم حتى آراك
يحكى أن سقراط كان جالسا فى دائرة بين تلاميذه يتبادلون الحديث ويتجادلون فى قضايا فكرية مختلفة، يطرحون الآراء وهو يصوب ويصحح. وأثناء السجال وتبادل الأفكار بين الأستاذ وتلاميذه ظل أحدهم صامتا لايشترك فيما يدور من حديث، فنظر إليه سقراط، وقال جملته الشهيرة: تكلم حتى آراك.

ثلاث كلمات تحمل معانى ودلالات كثيرة. فالكلام هو مرآة الشخص، يعكس مابداخله ويخبرعن أفكاره وقناعاته، بل وعن حالته النفسية والعقلية أيضا. الكلام يجعلك تحترم قائله حتى وإن إختلفت معه فى الرأى، أو قد يجعلك تفقد احترامك له وثقتك به. ليس فقط الكلام الذي يقال ولكنه أيضا الاسلوب والتوقيت والمحل والجمع الذي يلقى فيه الكلام، يرفع الكلام المتحدث أو يسقطه، بل قد ينقذ أمم أو يجرها إلى الهلاك. ليس المنصب أو المؤهل أو المكانة، بل الكلام هو الذي يخبرنا إذا كان المتحدث عاقلا أم مهووسا، متزنا أم خائفا، عادلا أم ظالما، صادقا أم كاذبا.

تكلم الرئيس اليوم في ذكرى تحرير سيناء فماذا رأيت؟

رأيت رئيسا يتحدث عن "التمسك بتراب الوطن"وعن"الدماء التى أختلطت بالأرض" لاستعادتها، بالرغم تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وقراره المنفرد بالتفريط فى الأرض وسط غضب جماهيرى واسع وفى تجاهل مروع للشعب صاحب الأرض وللدستور ولمؤسسات الدولة.

رأيت رئيسا يتكلم عن ذكرى تحرير سيناء و"ملحمة استرداد الأرض كمنبعا تنهل منه الأجيال القادمة معانى العزة والكرامة والحفاظ على أرض الوطن" بعد أن تم التعدى على حقوق وملكية الأجيال القادمة.

رأيت رئيسا متحدثا عن إننا صفا واحدا، متجاهلا الغضب المشتعل بالشارع المصري بسبب صفقة التنازل عن الأرض، ومتناسيا الغليان الذي حدث فى يوم الجمعة الماضية والمتوقع أن يتكرر حدوثه غدا.

رأيت رئيسا لا يعطى وزنا أو اهتماما بالرأى الآخر، ومصرا على ما قاله في حديثه للأسرة المصرية في منتصف هذا الشهر، بعدم السماح بالحديث أو التطرق لموضوع التنازل وكأنه أمرا مقضيا، "ماحدش يتكلم في الموضوع ده تانى"، لأنه لم يشر إليه فى حديثه اليوم، ولا يريد على ما يبدو أن يتذكره أو أن يذكره أحد بما فعله.

رأيت رئيسا متجهما مقتضبا على غيرعادته، منكرا للواقع ومصرا على إننا صفا واحدا، بالرغم من انقسام الصف المصرى للأسف الشديد إلى عدة جبهات، ومتحدثا عن "براعة الدبلوماسية المصرية" متناسيا فشل هذه الدبلوماسية مؤخرا على جميع الأصعدة، بدءا من سد النهضة، إلى قضية مقتل ريجينى، وإنتهاء بكارثة الادعاء والاستماتة فى الدفع بأن الجزيرتين ليست أراض مصرية، فى سابقة لم تحدث فى أية من دبلوماسيات العالم.

رأيت رئيسا مصرا على الاستمرار فى نهج أسلافه من عدم الاعتبار مما سبق، وتجاهل الرأى الآخر، والاستهانة بغضب الشارع، وما أدراك ما غضب الشارع!

رأيت رئيسا متشبثا باستراتيجية التخويف من "المخططات والمؤامرات" التى تحاك لمصر من الخارج، والترهيب من "قوى الشر" التى تسعى لزعزعة الثقة في الدولة ومؤسساتها، متجاهلا ماتقوم به مؤسسات الدولة بنفسها من زعزعة مصداقيتها فى الداخل والخارج، وتجاوزاتها المتكررة فى الحقوق وفشلها فى الأداء.

رأيت رئيسا لايرى الواقع، متحدثا عن الاستقرار بالرغم من وجود الاستنفار فى كل مكان، وبالتزامن مع حملات قبض عشوائية على الشباب والمحامين والصحفيين وكل صاحب رأى معارض، فى انتهاك صارخ للدستور والقانون وفى تناقض واضح مع إداعاءات الإستقرار.

رأيت رئيسا مهوننا للأزمة الاقتصادية الطاحنة واصفا انخفاض الجنيه المصرى أمام الدولار بالتذبذب، وليس انهيارا وسقوطا مدويا اقترب من 50% من قيمة الجنيه المصري في غضون شهرين فقط.

رأيته يتحدث عن الدستور، الذي يتم تجاهله وانتهاك نصوصه باستمرار، ويتكلم عن دولة القانون الذي لا تحترمه ولا تطبقه مؤسسات الدولة، بدءا من الاعتقالات والتعدى على الحقوق والحريات العامة، إلى التصفيات الجسدية والتعذيب، ومرورا بالعدالة الإنتقائية في تطبيق القانون، وتلفيق تهم إزدراء الأديان، وعزل رئيس جهاز الرقابة الإدارية لمحاربته الفساد، وانتهاءٌ بالتنازل عن أراض مصرية بقرار منفرد.

رأيت رئيسا متأثرا بخلفيته العسكريا فكرا وممارسه، يستحضر القوات المسلحة دائما لتقديم حلولا مؤقتة لطمئنة البسطاء، وتكليفها "بتوزيع سلعا أساسية لمحدودى الدخل"، ويلجأ إليها دائما لتسكين الآلام بدلا من تقديم العلاج الشافى عن طريق مؤسسات ووزارات الدولة التي يجب أن تكون معنية بذلك وبصورة فعالة ومستمرة.

رأيت وسمعت كلاما مكررا عن المشروعات والإنجازات التى إن صدقت لكانت كفيلة بإخراجنا من الضائقة المالية التي تمر بها البلاد، وما كان إضطر إلى اللجوء لصفقة بيع الأرض المهينة. وسمعت مجددا إشارة وفخرا بمشروعات الطرق التى لا تغنى ولا تسمن من جوع وحدها، والتى أًهدرت بها المليارات بدلا من استثمارها فى مشروعات إنتاجية صناعية وزراعية، توفر دخلا وفرص عمل وتحقق تنمية مستدامة وتعظم الدخل القومى، واستثمارها في التعليم لكي تصلح العقول التى غَيبت وأودت بنا إلى الكثير مما نحن فيه الآن من تأخر وطائفية وغياب للفكر والوعى.

تكلم الرئيس، فرأيت رئيسا لا يدرك خطورة غليان الشارع ليلة عيد تحرير الأرض، الخامس والعشرين من أبريل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف