الدستور
الهام سيف الدولة
الست .. حضرة العمــدة
طلق نارى فى «نُص الليل»، على السكة الزراعية المؤدية إلى إحدى قرى محافظة الشرقية، ودماء تنزف من مصاب لم تبن ملامحه فى غبشة الليل، وصراخ بطلب إسعاف، وصوت يطلب محاصرة صاحب مصدرالطلقة الطائشة أو المقصودة، وجمع من الخفراء يهرولون نحو مصدر العيار، وحضور فورى لعساكر «النقطة» بصحبة قائدهم صاحب الأكتاف النحاسية اللامعة؛ تسبقهمكالعادة «سارينة» تعلن عن قدومهم الميمون لمعاينة موقع الحدث. وفجأة يصيح «أبو العرِّيف» بلهجته الفلاحية: «ماحدِّش يعمل أيُّـتها حاجة إلا بحضور حضرة العمدة»!! لتكون المفاجأة الكبرى فى قدوم «الست العُمدة» بخطواتٍ جادة، يسبقها «شيخ الخفر» بزيه التقليدى ليفسح الطريق لها؛ وليفتح الجمع الغفير مسارًا، لتصل «حضرة العمدة» إلى مكان الواقعة لمباشرة مهامها المنوطة بها.
ولكن جلال الموقف ورهبته، لم يستحوذ على اثنين من المتحاورين الموجودين بالمكان؛ واستمرا فى الحوار الجانبى ليتساءل أحدهما : هل العمدة فى بلدكم واحدة ست ؟ فيرد عليه الآخر بالإيجاب. موضحًا أن هذه ليست المرة الأولى فى مصر التى تتولى سيدة الاضطلاع بمهام كرسى «العمودية»!، فقد سبق لقرية «كمبوها» التابعة لبندر أسيوط فى صعيد مصر، أن تولت هذا الكرسى السيدة «إيفا هابيل كيرلس» بقرار من وزير الداخلية، فلا عجب أن ترى فى قريتنا اليوم الست «عمدتنا» والتى تتربع على المقعد بجدارة واقتدار، فإن مهام هذه الوظيفة لاتحتاج إلى الجهد البدنى والعضلي، بقدر ماتحتاج إلى الوعى الكامل بمهامها، والثقة بالنفس، والثقافة الحياتية المتنوعة، والخبرة الطويلة فى العمل العام والتفرغ تمامًا له؛ والقدرة بالعقل الواعى والفكر المستنير على فض المنازعات التى قد تطرأ بين الحين والحين بين بعض العائلات، سواء عن تقسيم الإرث الشرعى، أو نزاع على ترسيم حدود الأرض الزراعية، أو خلافات شخصية وعائلية جوهرية، قد تؤدى إلى سقوط ضحايا أبرياء لا ذنب لهم فى تلك الخلافات؛ الأمر الذى قد ينتج عنه الدخول فى سلسلة طويلة من عمليات الأخذ بالثأر التى تطيح بزهرة شباب العائلات؛ وتظل إرثًا رديئًا على أكتاف الأجيال اللاحقة ، وهى العادة التى نود القضاء عليها من جذورها.
هذا التمهيد للمقال؛ ليس صفحة من صفحات سيناريو سينمائى، ولكنه لقطة لتقريب الصورة ذهنيًا؛ لندخل معاً إلى التدليل بالوقائع على عوامل نجاحات المرأة المصرية وقدرتها على إقناعنا بنجاحاتها. فإن العوامل التى تؤدى إلى نجاح المرأة فى هذا المكان، يتطلب الإيمان بضرورة الاهتمام بتشكيل لجان متحركة وفاعلة للصحة والمرأة والشباب والتعليم، وغيرها من اللجان التى تعملبكفاءة لخدمة المجتمع فى شتى المجالات، فنجاحاتها مرهونة بالمعرفة الكاملة بشبكة العلاقات العائلية، والتواصل بمد جسور تلك العلاقات الحميمية، الأمر الذى يمهد كل السبل لإيجاد الحلول المناسبة والسريعة لكل مايطرأ داخل المجتمع من مشكلات، ولا شك أن المرأة بطبيعتها قادرة على الإمساك بأطراف خيوط الود والتراحم، لتنسج ثوبًا قشيبًا يحتوى المجتمع بأكمله تحت عباءته، ليكتسى الجمال والبهاء.
فترانا لم نكن نتحدث من فراغ، عن جدارة واستحقاق المرأة المصرية فى أن تشغل العديد من المناصب القيادية، وإثبات وجودها الفاعل فى الأماكن التى يتخيل البعض أنها غير قادرة على القيام بأعبائها ، وها هى تثبت على مدى الأيام وفى جميع المواقع؛ قدرتها على أن تكون قاطرة التقدم إلى طليعة الصفوف ضمن النخبة والصفوة؛ لتنافس وتقتحم وتقتنص كل ماكانت تصبو إليه من طموحات فى سبيل خدمة العمل العام؛ من منطلق الوطنية الصادقة؛ والمؤمنة بأن الطريق إلى رفعة الأوطان هو عدم التفرقة بين الرجل والمرأة فى خدمة المجتمع، وأن تكون العبرة بما يقدمه الإنسان من خطوات جادة فى سبيل المصلحة العامة، بصرف النظر عن نوعه وجنسه، مع ضرورة التأكيد أنه آن الأوان لتنتهى بل تختفى تلك الادعاءات الكاذبة بعدم قدرة المرأة على الريادة والقيادة فى جميع الميادين.
وها هو الدستور المصرى الذى صيغ بالحس الثورى، يفتح الباب على مصراعيه لتقتحمه المرأة بكل مالديها من طاقة واعدة وخلاقة، إذ منحها الفرصة بتخصيص 25% من مقاعد المجالس المحلية، تشجيعًا على الخوض فى المضمار السياسى والعمل الجماهيرى، الأمر الذى حدا بالمرأة المصرية باتخاذ الخطوات الفاعلة فى المشاركة؛ انتصارًا للأجيال السابقة من نساء مصر اللائى كافحن لنيل بعض هذه الميزات المتوافرة الآن، ولإعادة تشكيل وصياغة الوجدان الشعبى، بالاعتراف بما يليق بالمكانة التى احتلتها المرأة المصرية منذ أقدم عصور التاريخ، ومنذ اعتلت الملكات عرش مصر.
بيد أن إعادة صياغة هذا الوجدان الشعبى المصري؛ يقتضى بالضرورة الإيمان الصادق بقدرة المرأة على اجتياز كل العقبات التى فرضتها بعض الأفكار الرجعية؛ التى سادت وطفت على السطح فى بعض فترات المنعطفات التاريخية والأزمات، لما لها من تأثير سلبى ، وحجر عثرة كؤود سيقف فى وجه محددات النهوض بالمرأة خصوصًا والمجتمع عمومًا.
فـيا «حضرة العمدة/الست»: ما أنتِ إلا حلقة تنضاف إلى سلسلة نجاحات المرأة المصرية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف