الوطن
نائل السودة
من الأنانية للإنسانية
مشكلٌ هو أن يخرج الإنسان من ذاته إلى الآخرين والعالم من حوله.

خلق الإنسان ذاتياً أنانياً، وهذا الخروج من شهوة الذاتية ومصالحها إلى الإنسانية كلها، عمل ليس فطرياً بل يحتاج جهداً عقلياً واجتماعياً، ومن أجل ذلك قامت فلسفات وأديان تدعو لهذا الخروج من الداخل الذاتى إلى الخارج الإنسانى، من الأنانية التى تجعله يكتنز لنفسه ويُعرف المادة والفكرة والقيمة إلى أن يقبل لغيره ما يقبل لنفسه ويرفض لغيره ما يرفضه لنفسه. أن يكون عادلاً بين نفسه والآخرين، ليس فقط وهو يحكمهم بل حين يتفوه ويطلب كامرئ عادى لهم ولنفسه.

بل عليه أن يكون عادلاً حتى مع أولئك الذين لم يكونوا عادلين معه بل وآذوه.

أرأيت أى صراع هو ذلك الخروج الذى يلزمه القلب السليم والعقل السليم والحكمة والوعى.

هذا هو صراع البشرية الأزلى، ولكن البشرية اليوم وكل يوم يمر هى أسعد حالاً وأقرب لهذا الهدف عن اليوم السابق، نحن نرى أناساً يدعون للعدالة مع قاتلى ذويهم، ويدعون للحرية مع من ينوون قتالهم.

اقتربت البشرية ولا تزال تسعى بفضل العقل الذى أنتج وطور العلوم الطبيعية كالفيزياء والبيولوجيا، وبفضل العقل الذى طور علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون وغيرها.

نرى الخروج من الأنانية والهمجية إلى الإنسانى والحضارى فى تلك البلاد المتقدمة التى يحكمها العقل. لقد وصلوا إلى قناعة بعد حروب وصراعات إلى أن العدالة تحقق الأمن.

كيف سيحصل الإنسان على الأمان والطمأنينة والفراغ لتحقيق ذاته وطموحه وسعادته وحوله الفوضى وعدم الاستقرار ومن يتربص به وينتظر لحظة الخلاص منه والانقضاض عليه إن لم يكن عادلاً معه أو كان ناهباً أو ظالماً له؟

حتى ولو بنى لنفسه مستعمرة عالية الأسوار بعيدة عن المتربصين المنتظرين؟ هل هناك مستعمرة فى التاريخ لم تنهدم وتساوى أسوارها الأرض؟

تتقدم البشرية كل يوم نحو العدل ونحو الحرية ونحو السلام، إلا فى تلك البلاد التى لا يعمل العقل والعلم فيها ويتصور فيها بعضهم أنه طالما جلس على مقعد فالأمن تحقق ويتجاهل جاره الواقف الذى أصابه التعب فتململ وتحرك وقلق.. القلق معدٍ!

أو يتصور أنه طالما حصل على حريته وخصومه فى القفص فسيشعر بالراحة والأمن بينما هو نفسه سجين لذلك الذى يحرسه داخل القفص لئلا يكسر القضبان ويخرج إليه!

أو يتصور أنه طالما وضع يده على الأرض، وحَدَّها ومنع عنها من له حق فيها قد عاش غنياً ومطمئناً وسالماً.

لنفرض رجلاً وهب أملاكه لجميع أولاده إلا واحداً ووثق ذلك ومكنهم منها، ولكن هذا الابن المغبون لم يسلم بذلك وظل مطالباً بنصيبه فى الإرث رغم التوثيق العقارى ووضع يد إخوته المكين، هل يشعر هؤلاء جميعاً بالراحة والأمان؟

إن مجرد حديث المحروم على مقهى عن حقه يصيبهم بالقلق والمهانة لأنهم يشعرون فى قرارة نفوسهم بالظلم.

الحق أقوى من الأوراق الموثقة ومن وضع اليد طالما أن صاحبه يطلبه. الحق أقوى من القوة، ولابد من إقرار المحروم والمظلوم والمطالب بالحق ليكتسب صاحبه المشروعية، فلا حق منكوراً.

الحق واضح فى ظل التطور العلمى والحضارى.

لا يمكن لأحد صنع العدالة على المقاس ويقول هذا حق إلا لو كانت لا تتعلق بغيره إطلاقاً، ولا يمكن أن تُحد حدوداً للحرية ويقال هى الحرية الحق إلا لو كان المدعى وحيداً فى غرفته المغلقة عليه تماماً.

لابد لمن يشتركون فى شارع ومدينة ودولة أن يتوافقوا أن هذه هى الحرية الحق والعدل الحق.

لا يعقل أن تختار ما تفضله وتنكر الباقى.

للأسف هذا ما لم تدركه فاطمة ناعوت التى حكم عليها بالحبس فى ازدراء دين حين انتقت لنفسها وأيدت نوعاً من الحرية ونوعاً من العدل وأنكرت على غيرها الحرية والعدل، فدعمت ما هو لا حرية ولا عدل، ثم وقعت هى نفسها ضحية التمييز بين أنواع مستحبة وأنواع مستهجنة من العدل والحرية!

وكذا إيطاليا التى لم تخرج من ذاتيتها ومصلحتها لأفق الإنسانية وتجاهلت الحرية والعدالة وفقدت مواطنها ريجينى هنا.

هل ينجو الأنانى من شر يسكت عنه أو فوضى تجاوره؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف