الأهرام
سمير أمين
ثــورة أم انحطــاط؟
أودّ فى هذا المقال أن أعود الى ماض قد يبدو بعيدا، قاصدا عصر الإمبراطورية الرومانية. وذلك لأن هناك توازياٍ بارز بين الأزمة التى تمخضت عن انهيار الإمبراطورية القديمة وبين أزمتنا الراهنة. ففى الحالتين يعانى النظام من أزمة هيكلية مصدرها أن مركزة الفائض المستخرج من المنتجين قد غدت مفرطة، أى متقدمة على علاقات الإنتاج التى تكوّن قاعدة تشغيله. لذلك يصبح نموّ القوي الإنتاجية فى تخوم المنظومة الكبري مرهونا بانفجار هذه الأخيرة واستبدالها بنظام لامركزي فى جمع الفائض واستخدامه.

لم يقتض مستوى تطور القوي الإنتاجية المحققة فى الدولة الرومانية مركزة تحصيل الفائض على صعيد المنظومة الإمبريالية؛ وبالتالى أجهض مشروع إنجازها، فأعقب هذه المحاولة الفاشلة انتقال قسري الى التفتت الذى اتسّم به النظام الإقطاعي. أما النظام الامبريالي المعاصر فهو بدوره نظام مركزة الفائض على الصعيد العالمي هذه المرة. وتفعل هذه المركزة فعلها على أساس القانون الرئيسي للنمط الرأسمالى وفى شروط هيمنته على التشكيلات الاجتماعية المنوّعة والخاصة بالمراكز وتخوم المنظومة. وقد اقترحت صيغة لقانون التراكم الرأسمالى على الصعيد العالمي بوصفه تعبيرا عن قانون القيمة الفاعل على هذا الصعيد. ويتسّم النظام الإمبريالي لمركزة فائض القيمة بتسهيل التراكم فى مراكز النظام، فى حين يعانى هذا التراكم فى التخوم من العوائق والتشويه، بحيث يصبح التنمية والتخلف وجهي العملة الواحدة.

وبالتالى يتفاقم الطابع الطفيلي للمجتمع المركزي. ففى روما أفسد الخراج ( وهو شكل الفائض المستخرج ) طبقة العامة وشلّ ثورتها. أما فى مجتمعات المركز الإمبريالي المعاصر فإن جزءا متناميا من أهلها بات يستفيد من وظائف غير منتجة ومن مواقع متميزة بزغت وازدهرت هنا من جراء آثار التقسيم الدولى اللامتكافئ للعمل. لذلك صار تحقيق الانفكاك من النظام الإمبريالي أمرا عسيرا، يعوق قيام تحالف مناهض للإمبريالية قادرًا على الإطاحة بالتحالف المهيمن وعلى فتح السبيل للانتقال الاشتراكي.

وبالرغم من ذلك فإن شعور التمرّد الكامن على العلاقات الرأسمالية لم يختف فى المراكز؛ غير أنه ظل مشلولا بالعجز. فالذين يتطلعون الى «تغيير الحياة» يعجزون عن تغيير الحكومة! لذلك تركزت الخطوات التقدمية التى تم تحقيقها حتى الآن فى مجالات الحياة الاجتماعية اكثر منها فى مجال تنظيم الإنتاج والدولة. ويقوم انهيار القيم البورجوازية والثورة الصامتة ضد العادات والتقاليد المحافظة شاهدا على هذا الوجه التناقضي للسيرورة. فكثيرا ما تكون الممارسات الاجتماعية وشبكة الأفكار حولها فى التخوم أقلّ تقدما بأشواط مما هى عليه فى المراكز. ومع ذلك تشهد التخوم أهم التجارب التى رسمت لنفسها هدف «بناء الإشتراكية».

انطلاقا من هذه المقارنة اقترح التمييز بين طرازين متباينين كيّفا من الانتقال من نمط انتاج سائد الى نمط آخر.

فعندما يتم هذا الانتقال على نحو غير واعٍ، أو بوعىٍ مستَلب، أى عندما لا تسمح الأيدولوجيا التى تحرك المجتمع بالسيطرة على سيرورة التغيير فإن هذا الأخير يبدو أشبه بتغير طبيعي، تشكل الأيدولوجيا جزءا من طبيعته. وهذا النوع من الانتقال هو ما نخصّه باسم «النموذج الانحطاطى». ويوفر الانتقال من النظام الروماني القديم الى الإقطاعية الأوروبية مثالا لهذا النوع من التطوّر التاريخي. فلا يتحدث احد عن «الثورة الإقطاعية» بصفتها وسيلة الانتقال المعني، بل يتحدث الجميع عن انحطاط وتدهور النظام القديم.

أمّا اذا أمكن للأيدولوجيا بالمقابل ان تعطى البعد الشامل والفعلى للتغيير المبتغي، فقد حقّ لنا عندئذ فقط ان نتكلم عن ثورة، أو عن طريق الثورة. وتوفر نماذج الانتقال من الإقطاعية الأوروبية الى الرأسمالية أمثلة متنوعة لهذا الطريق الثورى، ولو بدرجات متباينة من حيث درجة جذرية الثورة المعنية وبالتالى ألوانا متفاوتة من حيث نضوج الوعى ونفاذ بصيرة القوي الفاعلة الملموسة.

ماالذي نستطيع أن نقوله بالنسبة للأوضاع الراهنة فى ضوء هذه التأملات؟

هل تفتح الأزمة الهيكلية للرأسمالية التى أصابتها الشيخوخة سبيلا للدخول فى مرحلة انتقالية تتيح بالتدريج إنجاز خطوات ثورية الطابع؟ أم نحن أقرب من نموذج تطوّر يفلت من العقلية حتى تحكمه الفوضي والانحطاط؟

يزعم البعض أن عصرنا ليس فى الواقع عصر الانتقال الى الإشتراكية وإنما عصر التوسع العالمي للرأسمالية التى انطلقت من «البقعة الأوروبية الصغيرة» وطفقت، اليوم فحسب، تمتد باتجاه الجنوب والشرق السابق (الاتحاد السوفيتي والصين). ويلجأ هؤلاء فى طرح هذه النظرة الى ما يرونه «فشل»التجارب الإشتراكية فى الشرق والتجارب الوطنية فى الجنوب. فيقولون انه يوم أن يكتمل هذا التحول سيتجلّى التطوّر الإمبريالي،لا على أنه المرحلة الأخيرة للرأسمالية، بل على أنه مرحلة الانتقال الى الرأسمالية الكونية. وحتى فى حال الاستمرار بالتسليم بأن الأطروحة اللينينية عن الإمبريالية صحيحة وبأن التحرر الوطني يشكل جزءا من الثورة الإشتراكية وليس من الثورة البورجوازية، أفلن يكون ثمة مجال لاستثناءات؟ أى لظهور مراكز جديدة؟

تشدّد هذه الأطروحة على الرِدّات وعلى السير باتجاه النمط الدولاني فى البلدان الإشتراكية لتصف ما لم يكن إلا ثورات إشتراكية زائفة بأنه عبارة عن سيرورة موضوعية للتوّسع الرأسمالى، ولن يكون للماركسية فى هذه الحال من دور إلا أن تكون أيدولوجيا استلابية تتستر على الطابع الحقيقي لهذه التطورات وتحجبه عن الوعي.

أما انا فأنظر الى هذه الأمور نظرة مغايرة تماما. فأزعم أنه - فى حال استقرار الأوضاع فى إطار العولمة القائمة - لن يؤول تطوّر موازين القوي الظاهرية لصالح مجتمعات التخوم الى ظهور مراكز جديدة، بل سيتمخّض عنه فقط تجديد أشكال العلاقة غير المتكافئة بين المراكز التاريخية والتخوم المستحدثة. وبالتالى مازال السير فى سبيل الثورة المتواصلة على مراحل مطروحا على جدول التاريخ. ولا تقوم الرِدّات التى تجلب فى انهيار نماذج موجة التجارب الإشتراكية للقرن العشرين دليلا على »نهاية التأريخ«، بمعنى ديمومة الرأسمالية وقدرتها على التكيّف مع جميع التحولات التى قد تحدث.

لنا أن نتذكر أن تبلور الرأسمالية فى شكله التاريخي المعروف فى أوروبا الغربية لم يحدث بغتة ولكن بعد إجهاض سلسلة من التجارب السابقة على امتداد قرون خصّت مجتمعات عديدة من الصين الى الشرق الأدني والمدن الإيطالية. لماذا إذن لا يتكرر التاريخ فيما يخُصّ الانتقال الى الإشتراكية؟ وأن تظهر موجة ثانية من المبادرات تدفع فى اتجاه التحوّل الاشتراكي بعد اجهاض الموجة الأولى؟

على ان الاستهلال فى هذا السير يتطلب توفير شروط ذكرتها أعلاه وهى ظهور وتطوير وعي أكيد غير مُستَلب لما تقتضيه استراتيجية نضال فعّالة. بيد أن هذه الشروط لا تزال غير متوّفرة الى الآن، كما رأينا فى المقال السابق «فى أصول الفوضي الراهنة».

وبناءا عليه يظل المستقبل المنظور غير محدد. فثمة احتمالان ممكنان على قدم المساواة. أولهما ان تستمر الأوضاع على ما هى عليه؛ وفى هذه الحالة سيظل طريق الانتقال الى الإشتراكية مغلقا، ويدوم جو الفوضي سائدا على نمط ما حدث فى زمن انهيار الإمبراطورية الرومانية، التى تلته قرون من البربرية قبل ان تستقر الأمور مع إنعاش الحضارة فى إطار النظام الإقطاعي.

ولكن وسائل التدمير (العسكرية) فى متناول السلطة المعاصرة لا تقارن بما كانت عليه قبل ألفين عام. وبالتالى فإن تكرار هذا النمط المأساوي يحمل فى طيّه خطرا صحيحا لتحطيم الحضارة تحطيما مطلقا ونهائيا.

أما الاحتمال الآخر فهو مرهون بإدراك الحركات النضالية لنواقص فهمها للواقع حتى تصبح قادرة على طرح وفرض بديل متماسك وفعّال.

يمر بناء مستقبل «أفضل» بمرحلة تفكيك نظام مركزة فائض الناتج الخاص بالرأسمالية المعولمة القائمة، أى عبر مرحلة - قد تطول - تقتضي «فكّ الارتباط» بمعنى الخروج من هذه العولمة. على أن التفتّت فى تحصيل واستخدام الفائض لا يمثل فى رأيي الهدف النهائي للتحوّل المبتغي. وهنا ايضا قد تفيد المقارنة مع تاريخ أوروبا بعد سقوط الدولة الرومانية. لقد مثّل التفتّت الإقطاعي تقدما صحيحا بالنسبة الى الشعوب التى كانت ضحية سيادة روما. إلا ان التطوّر اللاحق عبر تجاوز الإقطاعية وبزوغ الرأسمالية، قد أدِّي الى العودة لمركزية تحصيل الفائض. وقد حدث ذلك على مرحلتين. ففى المرحلة الأولى أعيد بناء المركزة على صعيد الملكيات الأوروبية الكبري (بريطانيا وفرنساخاصة) فى عصر المركنتيلية (من عام 1500 الى عام 1800). وفى المرحلة التالية - مرحلة الرأسمالية المكتملة - صارت مركزة الفائض سارية هذه المرة على الصعيد العالمي، ولو على أسس ضمنت انحصار المراكز الإمبريالية بالاستفادة منها. وفى ظروفنا المعاصرة ينبغي ان ننظر الى فكّ الارتباط على انه ضرورة فورية. علما بأنه لا يمّثل نهاية التاريخ، فهو الوسيلة الوحيدة التى تهيئ ظروفا ملائمة لتجاوزه من خلال بناء مجتمع عالمى جديد، إشتراكي الطابع..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف