صباح الخير
عزة بدر
من قسوة الصيف أحببت الشتاء!
أفر إلى حضن الشتاء.. أحتمى من صيف قاس.. عذبنى بموجات الحر ثم صالحنى وجرى خلفى بمنفضة من ريش على الشاطئ!
تخفيت منه بأمواج البحر.. موجة تسلمنى لموجة، تضمنى واحدة لتفارقنى أخرى، تلطمنى بزخات من رمل وملح، تطاردنى سمكة صغيرة تلاعبنى فى الماء، نلتقى على هوى البحر فتلهبنا الشمس بسياطها المفتولة، بألعابها النارية فنعدو لنتلهى بوشوشات فى آذان صدفات تنصت لشكايتنا.

جرحنا التين الشوكى طول الصيف شوّكنا، وحتى حبات الترمس لم تكن لتطفئ جذوتها فى حلوقنا فى ليل نسمة حارة!
خلف سياج من خوص جردنا الصيف من أجنحتنا الورقية.. قصقصها.. لم يترك لنا حتى ثوبا من ريش!.. خلف سياج من خوص سرق متاعنا.. ألبسة البحر..
القبعات.. حتى حمالات المايوهات فتلها حبالا بأصابع من نار.. التهمت مالنا وما علينا!..
أعطنا يا ابن ربيعة ما أخذت منا ما سرقته من ألبسة البحر.
.. علق سترته فى رقبة الصيف.. قال: اسألوا هذا ليردها إليكم أما أنا فعابر سبيل!
• حصان خشبى!
قلت للصيف ما قاله نزار قبانى:
«الموج الأزرق فى عينيك/ ينادينى نحو الأعمق/ وأنا ما عندى تجربة فى الحب ولا عندى زورق»!
كم تنفسنا تحت الماء.. كم اقتربت منا يد الغرق.. ولم تفعل يا صيف شيئا!
علمتنا الأرق.. علمتنا السهر.. وقمرك فى الأعالى.. إلينا لايلتفت.. لا يرق ولايحن على أحد.
حبستنا يا صيف فى بيوت من زجاج بأطر من ألوميتال.. عشنا كالنباتات فى صوبات من زجاج.. نلتمس فقط.. شيئا من الضوء.. قطرات من ماء!
والمكيفات طوال الليل تزأر.. وتثأر منا لذنب لم نقترفه! ليلنا نهار، ونهارنا ليل.
نتأمل فى أكوابنا ماسات الثلج! نضعها على شفاهنا لنرطبها.. وعلى جباهنا لتبتل، أنهار العصائر تجرى بحبات المانجو نحو المصب.
آيس كريم بالكانتلوب لم يجد.. آلاف الآلاف من أغطية زجاجات المياه الغازية لم تفلح فى أن تكون مجرد عجلات لحصان خشبى نهرب فى جنباته من مدن الصيف إلى مدن الشتاء!
• تجارب..
آلاف الطيور تركت لنا أجنحتها من ريش حقيقى لنطير فوقفنا على أطراف أصابع أقدامنا فوق حواف النوافذ وكررنا عدة تجارب فى الطيران وكعباس بن فرناس، أبونا الخالد.. لكننا لم نستطع إلا التهاوى على مخدات من ريش صنعناها لنهوى فوقها ونتذكر جدنا الغالى بالخير.. كان فقط يريد أن يطير!
• حديث الأشجار!
جلسنا تحت الشجرات.. انتظرنا فى عز الصيف تفاحات حلوة تسقط علينا من أعالى الأشجار.. لنكتشف ملاحة الجاذبية الأرضية التى سبقنا إليها نيوتن.. جلسنا وانتظرنا ولم ترض تفاحة واحدة أن تسقط فوق رءوسنا!
.. قلنا لعلها أشجار التوت تورق فنخصف علينا منها بعد أن تركنا البحر، وضنت علينا الأمواج، وسرق الصيف ألبسة الحرير، وثياب الماء، تمنينا فقط أن نصبح مثل أبوينا آدم وحواء.. ولكنها شجرة التوت هزت أعطافها.. وتلعبت بخصرها وقالت: لا أوراق إلا فى الربيع.. لا أتنفس إلا مع قبلات الثغور لثمر التوت، لا أتنزى عسلا إلا لمن يجربون العشق وأنتم تنامون ملء جفونكم، ولا تأرقون لامرأة تشتكى الشوق، ولا لرجل تنزت ضلوع ضلوعه بالرغبة.
لستم كأبويكم فانظروا ماذا تفعلون؟!
• فى محبة الشتاء:
لم يبق لنا من الصيف سوى أغنيات بعيدة عن هوى المصايف!
عن قلاع الحب التى بنيناها فتهاوت، ورصعناها بالصدف ثم مشينا عليها بنفس قوة الساعدين بالأقدام! هدمناها بنفس الحرارة التى بها شيدناها. انتصرنا لأقدامنا، ولم نعط أيدينا ولا قلوبنا الرغبة فى البناء.. من قسوة الصيف.. أحببت الشتاء!
فتعال يا سيدى بمعطف هائل لتضم بين ذراعيك العالم، وآلاف المجرات التى تاهت فى مسالكها النجوم، تعال يا سيدى.. اشتاقت الحسناوات لفراء الثعالب، ومغامرات الثعالب فى ضم الخصور إلى الخصور، وجمع الثغور على الثغور، تعال فكل نساء العالم يتحولن فى لحظات البرد إلى قطاط.. تتلهب شوقا لعناق الحنان كما تتلهف القطاط إلى عناق الأسطح الساخنة لأجهزة التليفزيون، وكالجمرات فى ساحات مشتعلات مهيأة لأبى فروة، وكيزان الذرة، وأرغفة الخبز السمراء.
القلوب نفسها تتلهب.. وكم قيس تحرقت يداه من فرط الجوع للمحبة.. فى الشتاء أغرس نابى فى ذراع ثمرة بطاطا ضخمة وأقسم العالم إلى قسمين: نصف حلو، ونصف أحلى، وأقف على ناصية الشارع.. أعلق فى رقبتى قرون الفلفل الأحمر.. وأضع حطبا للنار.. وأعيد طقس الحفاوة بكل عابرى السبيل.
- «اتفضل قهوة.. اتفضل شاى»!
أمد خياما من شعر.. للعابرين، وأبناء السبيل.. لعاشقى السير فى ليل الشتاء.. وللخائفين من برد الشتاء.
أغزل أثوابا جديدة من صوف وطواق.. وشيلان مطرزة بالورد.
وأدفئ الليلات بالغزل الحلو، والتساؤل العذب:
«من صغرى معاه أنا يامه.. من صغرى معاه عارفة لما يغيب يا أمايا.. شمسى تغيب وياه غازلة له يامة بإيدى الطاقية
وازاى يامة مايلبسهاش واللى ما بعرفهوش.. يامايا.. ولا اللى أنا عارفاه.
«حبلى سماء الشتاء بالمطر الذى يغسلنا من الداخل. المطر الذى ينافس طهر قطرات الدمع، ونبل قصص العشاق، حرارة اللقاء، ولوعة الفراق.
حبلى سماء الشتاء بآلاف آلاف النجمات، بالكواكب التى تهوى فى الليل لتشعل فى ظلام الليل كوكب ليحتذى به الناس إذ يهمس: «أشعلوا شمعة بدلا من أن تلعنوا الظلام».
• برق ورعد وحب عاصف:
ما بخلت علينا أيها الشتاء أبدا لا بالمطر.. ولا بالسحب المتهورة ولا بالغمامات النزقة الزرقاء، ما بخلت علينا بأقواس قزح، ولا بمهرجانات ألوان الطيف فى خصورها، ولا بلمعات البرق قبل موسيقات الرعد، ماضننت علينا بكريستالات الثلج التى تغسل القلوب، ولا بالرياح التى تعصف بالمسكون الرتيب، والإيقاعات المملة لحركة الهواء.
عاصف هو الشتاء كالحب، ولانقبل بغير العصف، ممطر ولانرضى بغير انهمار المطر، عشنا فتور الصيف فأهلا بثورات الطبيعة فى الشتاء.. لعلها تعلم الإنسان أن يضم أخاه الإنسان.. أن يقتسم معه ثوبه وطعامه.. أوصينا بالجار فخفنا أن نورثه، امتلكنا الرغيف وخفنا أن نقتسمه، تسابقنا على ورود الماء فلوثنا مجرى النهر.. كتب الله الرزق للوردة تنبت فى قلب الحجر، فتراشقنا بالأحجار وصرنا نسن أسناننا على كل ورد!
كتب الله للطيور أن تغدو خماصا وتعود بطانا فمزقنا بطون الطيور بحثا عما تكون قد التقطته من خواتم الفضة!! لوعناها بالشى على السفود، حشوناها أرزا وفريكا.. وخطنا ضلوعها الممزقة وتلذذنا بأجسادها الصغيرة البريئة فى صحون من زجاج.
لم نحفظ عهد شقشقتها وندرتها.. فمتى نعود لأغنياتها.. وننصت لشقشقتها ونتعلم منها:
«عشك يا بلبل ده جنة
وأنت على بابها رضوان
هيش.. هيش يا بلبل
غرد يا بلبل على غصنك
أنت ووليفك من زيك
وصل وصفا زانه الوفا
حب وهنا نلت المنى»
• خيوط الدفء والمحبة
أقبل أيها الشتاء بما خبأت فى أعطافك لنا من لوز وجوز، وفستق، أقبل ومعك كسارة بندق ضخمة نضع تحت أضراسها شرور وهموم الدنيا.. لتولد على ألسنتنا لوزات الفرح والبهجة، تعبنا من الصيف.. لوّعنا.. فتعال أيها الشتاء واجمعنا لندفئ أيدينا على وهج المودة موقدنا مشتعل، والغريب واحد منا، والعابر ضيفنا المقيم.
والمريض شاغلنا حتى يشفى..
فى طريق السيول سنحتشد كما كنا نحتشد لفيضان النهر فى قديم الزمان.. فنرد عنا السيل بما تملك أيدينا.. ونرد عنا الويل بما نزلناه من خيوط الدفء والمحبة.
ولا أجمل من قول عروة بن الورد:
«فإن كنت لاتستطيع دفع منيتى فدعنى أبادرها بما ملكت يدى».
.. وأنا يا عروة يا ابن الورد.. من قسوة الصيف أحببت الشتاء.
ثأرت لنفسى مما سرقه الصيف من ألبسة البحر على الشاطئ..
لأختبئ فى معطف الشتاء
أعد أزراره بفمى.. وألتقط ما وسعنى زخات المطر..
وما تيسر لى من نجمات. •
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف