صباح الخير
امل فوزى
كاليفورنيا.. ولاية المال والمشى والبراح واللون الأخضر
لكل مكان بصمته، وطاقته، وتأثيره أو بمعنى أدق تأثيراته المتعددة على البشر.. أتصور أن هناك أماكن فى هذا العالم إذا زرتها أو عشت فيها لوقت ربما تغير الكثير فى شخصيتك وربما تجبرك - حتى دون وعى منك - أن تغير نظرتك للحياة.

فى نقطة ما على الخريطة، هى آخر حدود الولايات المتحدة الأمريكية من الغرب، ولاية كاليفورنيا.. تعانق الطبيعة الخضراء والغابات المذهلة التى تمثل 40% من مساحتها وهى كفيلة وكافية أن تجعلك تراجع نفسك فى تعريفك للون الأخضر.. هل نعرف بحق معنى الشجر الأخضر؟!!
سؤال فلسفى يستحق التأمل..
لم أطرح السؤال السابق بغرض السخرية ولا المقارنة، فطالما أحاول ألا أدخل فى سكة المقارنة بطريقة نحن، وهم.. وإن كانت المقارنة تفرض ذاتها دون الإشارة إليها.
أقصد أن أبدأ رصد رحلتى إلى مدينة أوكلاند التى يفصلها عن سان فرانسيسكو جسر الخليج بالحديث عن الغابات والمساحات والطبيعة الخضراء، قبل أن أتحدث عن مظاهر أو ملامح حياتية لها علاقة بالاقتصاد أو التعليم أو حتى السلوك البشرى، فقط أتحدث عما له علاقة بخلق الرحمن، ولا دخل للإنسان فيه شىء إلا أنه قدسه، ورعاه، واحترمه، وحافظ عليه، أعمل عقله للاستمتاع به، ومن ثم أصبحت تلك الطبيعة هى مصدر لنهضة وتطور تلك المجتمعات.
أصبحت الجبال والغابات الخضراء المتدرجة التى ترى من فوقها كل الساحل الغربى للولايات المتحدة ومدنه وجسوره وجزره، لن أقول مزارا ، لكنها نمط حياة، ولا أبالغ إن قلت أن تجربتى وهى «الهايكنج» أو صعود تلك المرتفعات الشاهقة من الجبال أرتنى جانباً آخر من الحياة، حياة البراح التى نخنق بها أنفسنا على الأسفلت وبين الجدران الأسمنتية، براح أن ترى ملكوتاً آخر داخلك وخارجك، تلك الرحلة التى استغرقت من السير على الأقدام حوالى 5 ساعات يتخللها بعض دقائق الراحة لقطع مسافة 20 كيلومتراً صعوداً وهبوطاً بين غابات الأشجار وبين أحضانها وأنت تشاهد مدينة أوكلاند وكل المدن المحيطة نهاية بالمحيط الهادى الذى يفصل أمريكا عن الجزء الآخر من العالم.. مشهد لا يمكن وصفه، وكل زاوية من الرؤية من على مرتفع ما تختلف عن الأخرى، ولكن الأهم أنه رغم افتخارى بنفسى أننى قمت بهذه المغامرة، بقدر سخريتى لنفسى عندما شاهدت سكان المدينة وسائحيها يمارسون تلك الرياضة على الأقل مرة واحدة فى الأسبوع، كبار السن ذوو أعمار تتحدى السبعين أذهلونى بليقاتهم وجديتهم فى المشى على أرض ليست ممهدة وبها مشقة الصعود على منحنيات، الشباب الصغير والفتيات الذين يبدأون عطلتهم السبوعية بذلك الطقس الرياضى المبهر، حتى كفيفى البصر، يمارسون تلك الرياضة على تلك المرتفعات فى سلام تام، هم وعصيانهم وربما كلابهم الصديقة، والأروع هم الأطفال الصغار بصحبة والديهم، كل يحمل حقيبة ظهره، ويستجمع قوته للصعود والمشى على المسار المحدد للسير بين أحضان هذه الغابات بمنتهى الاستقلالية والسعادة.. الكل يستمتع، حتى السائحين المنبهرين أمثالى، كل له الحق فى أن يصنع مزاجه ومتعته بمنتهى التحضر والروعة والهدوء، ولم أشهد شيئاً واحداً أثار حفيظتى أو استوقفنى سلبا.. وكنت أتساءل، كيف تم الاحتفاظ بهذه المساحات دون أن يتدخل لإفسادها مصلحة أو سطوة أو سلطة لاستغلالها، كيف تم على كل تلك المساحات على أنها محميات طبيعية، أصبحت سبباً فى أن تدر دخلاً عظيماً على الولاية..وأبهرتنى صخرة رائعة تسمى Indian Rock أو الصخرة الهندية وهى مكان بديع قريب من جامعة كاليفورنيا فى مدينة بيركلى، يمكن أن تأتيه، فتصعد إليه لتستمتع بالمشهد الرائع، وأصبحت تلك الصخرة مكاناً يأتيه الطلاب أو الموظفون فى ساعة الراحة بمنتصف النهار ومعهم وجبة خفيفة أو حتى كوب القهوة وكتاب، ويسعد الجميع بتلك الساعة البديعة فى جو من الهدوء والخصوصية، هل سيأتى يوم علينا نتمكناً نحن البنى آدمين المصريين أن نتوجه لمكان عام، يقع فى الشارع تقريباً، تتمكن من اختلاس ساعة راحة وبراح وهدوء وخصوصية وانسجام دون أن يقترب منك شخص أو يعكر صفو تأملك أى فعل يخدش حياء تواصلك مع الصمت والهدوء.. أخذنى عقلى رغم أنفى وأنا أصف هذا المشهد إلى صورة فانتازية، وهى: هل سيدرج فى اللجنة أو الهيئة الجديدة المعنية بالأخلاق فى مصر.. أن يكون لكل مواطن الحق فى أن ينعم بفضيلة اسمها «خليك فى حالك وسيبنى فى حالى»!!
العلم والاقتصاد
أما جامعة كاليفورنيا UC فهى موضوع له خصوصية أخرى، فقد حالفنى الحظ أن أزور فرعى الجامعة، أحدهما فى بيركلى والتى تأسست عام 1868 والأخرى فى مدينة دافيس، وللجامعة عشرة أفرع فى ولاية كاليفورنيا، وتعد تلك الجامعة من أهم وأفضل عشر جامعات فى التصنيف العلمى للجامعات، كما أنها حصلت على المركز الثامن لأفضل حرم جامعى بين جامعات العالم كله، وبالفعل إن زيارة تلك الجامعة العريقة والسير بين حدائقها وشوارعها وأروقتها ومبانيها ومكتباتها المتعددة شىء مذهل ورائع، أضاف إلى رحلتى قيمة لن أنساها ما حييت.
كل فرع للجامعة فى مدينة أو مقاطعة مختلفة فى ولاية كاليفورنيا تتميز بتدريس علوم ما متخصصة، فالجامعة فى بيركلى تتميز بالعلوم والفنون الزراعية والهندسة التعدينية، خاصة أن الشأن الزراعى فى كاليفورنيا له أولوية فى اقتصاديات أمريكا، حيث إنها خامس أهم مورد زراعى فى العالم، ويعد الاقتصاد فى كاليفورنيا هو على رأس قائمة الاقتصاد الأمريكى كله، وهذا يعنى أن العلم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد، فميزانية جامعة كاليفورنيا ببركلى يصل إلى حوالي11 مليار دولار سنويا، وهذا يفسر عدد الخريجين الذين تخرجوا فى تلك الجامعة منذ تأسيسها والذى يصل عددهم إلى حوالى مليون ونصف المليون متخرج، منهم العديد ممن حصلوا على جوائز نوبل، وجوائز عالمية مرموقة أخرى.
أهم ما لفت انتباهى فى جامعة كاليفورنيا ببيركلى تحديداً هو انتشار الصور والمعارض التى تتعلق بذوى الإعاقة، حيث إن نسبة كبيرة من الدارسين بهذه الجامعة يأتون إلى فرعها فى بيركلى حيث إنها مهتمة بشكل أساسى بحقوق المعاقين وتم عقد مؤتمرات ونشر وثائق حقوقية تضمن لذوى الإعاقة حقوقهم فى الحصول على تعليم وفرص متكافئة وتيسير تام لتعاملاتهم كأى طالب عادى، دون الاعتماد على أية وسائل مساعدة قد تنقص من إحساسه بالاستقلالية، ولهذا قد لفت نظرى أن تصميم كل جزء فى الجامعة، ييسر لذوى الإعاقة تحركاتهم، سواء فى الصعود إلى قاعات المحاضرات أو إلى المكتبات المتعددة، أو حتى للتنقل بين حدائق ومقاهى الجامعة وكذلك الوصول إلى المبانى السكنية الملحقة بكلياتهم، هذا بالإضافة إلى الشوارع، وإشارات المرور، ببساطة.. الطالب ذو الإعاقة هو طالب لديه جميع الحقوق النظرية والواقعية، مما جعلنى أتأمل حركة هؤلاء الطلاب، التى لا يشوبها أى تضرر أو حتى ينقصها مساعدة من الآخر الكل سواء، طالب يمشى على قدميه أو طالب يمشى بجواره على كرسى متحرك.. ما أروعها الإنسانية.
أما فرع الجامعة فى مدينة دافيس، له خصوصية أكثر، حيث إن صغر المدينة قد فرض على سكانها كباراً وصغاراً وأطفالاً أن تكون وسيلة المواصلات الأساسية لهم هى الدراجات، ومن أروع المشاهد أن تتجول فى الحرم الجامعى بين تدفق الدراجات التى يركبها الطلاب والأساتذة رجال ونساء، كل يحمل حقيبة ظهره وينطلق للحاق بمحاضرته من مبنى إلى آخر، إن مراقبة هذا المشهد من بعيد هى متعة رائعة، وكدت أن أجن من كميات وأعداد الدراجات المصطفة فى كل أنحاء الجامعة، حتى إن أتوبيسات النقل العام فى تلك المدينة يقودها طلاب كنوع من العمل الإضافى للحصول على دخل مالى لهم.
الطلاب هناك يدرسون ويعملون، ويمارسون الرياضة، قابلت طلاباً كثيرين فى بعض محاضرات تدريس اللغة العربية للطلاب الراغبين فى الحصول على لغة أخرى للدراسة، وفوجئت بطلاب يدرسون الفيزياء أو الهندسة أو الاقتصاد والعلوم السياسية، الكيمياء الحيوية، أو الكيمياء الدوائية لكنهم اختاروا أن تكون اللغة الأخرى المختارة هى اللغة العربية، إما لحبهم أو رغبتهم فى التعرف على الثقافة العربية وفهم ما يجرى فى تلك المنطقة، ومنهم من هم طلاب أمريكيون من أصول عربية، ولا يعرفون كلمة واحدة عربية، أو من يعرف ينطق العربية لكنه لا يقرأها ولا يكتبها، لكنهم فى النهاية يتعلمون لغة جديدة من أبجديتها.. كما أن لجامعة كاليفورنيا باعاً طويلاً فى النشاط السياسى المتعلق بحقوق الإنسان مثل القضية الفلسطينية، وقد ذكرت لى الدكتورة نهى رضوان أستاذ الأدب المقارن بجامعة كاليفورنيا بدافيس، أنها أثناء دراستها للدكتوراة بالجامعة فى بيركلى، كان أثناء حصار غزة والمذابح الوحشية التى كانت تمارسها إسرائيل فى فلسطين، قامت حركة قوية جداً من الجامعة والنشطاء فى الجامعة وبحشود من المناصرين للقضية الفلسطينية فى مختلف الجامعات ومن عموم الناس حيث وصل عدد المتظاهرين إلى حوالى 50 ألف متظاهر متجهين إلى أكبر الموانى بأوكلاند The Port Authority وذلك لمنع الشاحنات والسفن القادمة من إسرائيل للدخول إلى الميناء وتم الحشد وعمل جسور بشرية ورفعوا لافتات مكتوب عليها «نحن السلطة» we are the port Authority وبالفعل نجحوا فى أن يمنعوا تلك السفن الإسرائيلية، حيث إن سلطة الميناء والولاية اضطرت للخضوع إلى مطالب الطلاب والنشطاء والمناصرين للقضية.. ومعروف عن هذه الجامعة حركاتها السياسية والحقوقية المدافعة عن القهر والظلم الإنسانى فى مختلف دول العالم.
الوقت الممتع
كم هو ممتع أن أقضى كل هذا الوقت فى الجامعة وأن أرى داخل الحرم الجامعى عدة عوالم مختلفة مفعمة بالطاقة، جماهير مشجعين يتحركون نحو الاستاد لتشجيع فريق الجامعة وهم يرتدون جميعهم تى شيرتات وزى الفريق Cal اختصارا لكاليفورنيا، وحيث تستجمع المدينة طاقتها وشبابها فى حدث أشبه بالاحتفال لأن فريق كرة القدم للجامعة سيلعب ضد جامعة منافسة شىء رائع هذا الانتماء المبهج والإيجابى، لدرجة أن يشارك المواطنون ومنهم مراهقون فى العمل التطوعى التنظيمى، أو للعمل بأجر مثل بيع مثلجات أو فطائر، وفى ذلك اليوم، وكأن مقاطعة بيركلى فى حضرة مهرجان كبير، وتتجاوز هذه المساحة من الجامعة فأدخل إلى مكتبة متاحة للجميع، لا أستطيع تحديد نهايتها على مرمى البصر، بجو محفز على القراءة والبحث والهدوء، هذا بالإضافة إلى المكتبات البحثية، والمدهش وهذا هو الأهم، أن جامعة كاليفورنيا، يمكنك الدخول إليها فقط للتجول والتنزه دون أن يقابلك سور حديدى أو بوابة عليها حراس أمن، فالجامعة حرم للجميع، والجميع يقدر حرمة الجامعة.
فالعلم مكان لا يصح ولا يليق به أن يسجن داخل أسوار أو حواجز تمنعك من مجرد الائتناس به.
فالبلد الذى يبنى لساحة علمه سور، هو يبنى فى الأساس مائة سوراً بينه وبين النهضة والارتقاء.•
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف