الأخبار
محمد فهمى
حركة المحافظين .. بركة !
ولذلك تبدو المهمة العاجلة للسادة المحافظين الجدد.. في ازالة اسباب وملابسات الاحوال المعيشية التي ادت إلي تحويل كافة محافظات مصر إلي محافظات طاردة لسكانها

استقبلت الجماهير الغفيرة حركة المحافظين الجدد.. يحدوها الأمل في أن تستطيع الحركة الجديدة.. أن تقوم بدور المجالس البلدية علي نحو ما كانت عليه أيام اجدادنا.. والتي لخصها الشاعر الكبير بيرم التونسي في قصيدته «المجالس المحلية» والتي قال فيها:
قد اوقع القلب في الاشجان والكمد
هوي حبيب يسمي المجلس البلدي
امشي واكتم انفاسي مخافة
ان يعدها عامل للمجلس البلدي
ما شرد النوم عن جفني القريح سوي
طيف خيال.. خيال المجلس البلدي
تلك القصيدة الرائعة.. لخصت آمال الغالبية العظمي من المواطنين الشرفاء في كافة محافظات مصر.. بأن يعرف كل مواطن في بلدنا ثقافة الانضباط والضرب عرض الحائط بالقوانين والقواعد واللوائح المنظمة لحياة المواطنين.. ابتداء من جمع القمامة.. واحترام الأرصفة.. وحتي البناء فوق الأراضي الزراعية.. وهدم العشش المتواضعة لاقامة ناطحات سحاب.
واتصور ان المهمة العاجلة أمام السادة المحافظين بعد محاربة الفساد والرشوة.. هي محاولة تعميم ثقافة الانضباط التي افتقدناها طوال ما يزيد علي نصف القرن.. والتي تجسدت هذه الأيام في الضرب عرض الحائط بالقواعد الأساسية التي تعد من بديهات الحياة في الدول الراقية.. والتي يتعلمها الطفل في دار الحضانة وفي المدرسة.. ويمارسها في حياته باعتبارها من القواعد الأساسية التي لا تقبل المخالفة.. أو الجدل حولها والمناقشة التي تتباين فيها الآراء ووجهات النظر.
واتصور أن اصلاح البنية البشرية يبدأ من المحافظات ومن الاقاليم والمدن والقري التي كانت تصدر للعاصمة في الماضي القيم النبيلة والعادات والتقاليد لمجتمعات لم تكن قد لوثتها ودنستها التقلبات التي شهدتها العاصمة طوال سنوات بعيدة.. والتي كنا نحلم خلالها بالعودة لما كان يطلق عليه الرئيس الراحل انور السادات «أخلاق القرية».
نحن في حاجة إلي العودة لاخلاق القرية بكل ما تحمله الصورة الذهنية للقرية المصرية في عصورها الذهبية.. من قيم وتقاليد.. تحدث عنها أساطير الأولين وتناولتها العديد من الاعمال الادبية لكبار كتابنا وفي مقدمتهم طه حسين وتوفيق الحكيم.. علاوة علي العديد من القصائد الشعرية لحافظ ابراهيم واحمد شوقي وغيرهما.. وهي التي تحولت إلي أغان تجري علي الألسنة وإلي أفلام شهدنا فيها حياة المصانع والفلاح.. الذي يوفر الغذاء والكساء.. بلا جلبة ولا ضوضاء.
هذه الصورة الذهنية المتوارثة اختفت.. في ظل ظاهرة خطيرة.. لم تلفت نظر حكامنا.. طوال عقود.. للاسف الشديد.. وهي ظاهرة الهجرة من كافة قري ومحافظات مصر.. إلي العاصمة التي ازدحمت بالبشر.. واختلط فيها الحابل بالنابل.. والمحترم بالسافل.. واطلت علي السطح سلوكيات وممارسات.. لم نكن نعرفها من قبل.. جاءت إلينا من خارج حدودنا.. ومن ثقافة لا تمت لثقافتنا بأدني صلة.. بدت في ملابس الصحراء وقيم الصحراء. وسلوكيات تعود إلي أزمنة الجاهلية. في الوقت الذي اندثرت فيه هذه العادات في بلادها الاصلية.
ولذلك تبدو المهمة العاجلة للسادة المحافظين الجدد.. في ازالة اسباب وملابسات الاحوال المعيشية التي ادت إلي تحويل كافة محافظات مصر إلي محافظات طاردة لسكانها.. وضاربة عرض الحائط بثقافة الانتماء للموطن الاصلي.. والتباهي بالانتماء للقرية والمدينة التي تحملها شهادة ميلاده.
وتلك الحالة ليست بدعة.. وعرفتها الثقافة الاجتماعية في بلدنا منذ مئات السنين.. وجسدتها العديد من أمثالنا الشعبية التي تتناول ارتباط المواطن.. سجل مولده ونشأته الأولي.. ويقال علي سبيل المثال «امشي سنة.. ولا تعدي قناة» و«ما يحمل همك الا اللي من دمك» و«جوز ابنك الدمياطية.. ولا تجوز بنتك لدمياطي».. و«الضنا إن لف الدنيا ودار.. ما يلقاش غير حضن امه.. دار».. والعشرات من الأمثلة الشعبية التي جرت علي ألسنة أجدادنا.. وتدور في مجملها علي اهمية ارتباط المواطن ببلدته وتشير في كل الاحوال لارتباط الانسان في بلدنا بموطنه الاصلي وكان مولوده.. وتشكل في العقل الباطن ثقافة الانتماء.. والارتفاع بالروح المعنوية الجماعية.. ودفع عجلة الانتاج والابداع.. ونظافة المظهر والجوهر.
هذه الروح المعنوية الجماعية. كان وراء الانجازات التي حققتها بعض المحافظات.. واكتسبت شهرتها وصيتها بانجازات لم تسبقها إليها محافظة أخري.. ومن الامثلة علي ذلك محافظة دمياط التي تخصصت في صناعة الاثاث.. ولم يكن هناك بيت واحد يخلو من قطعة اثاث قادمة من دمياط.. علاوة علي سمعة اهلها التي ضربت الافاق في صناعة كافة الوان الحلوي.. واصناف الجبنة التي كانت تصدرها دمياط الي كافة المحافظات.
وهي قضية تدفعنا لطرح السؤال علي امكانية تخصص كافة محافظاتنا.. في انتاج سلع محددة.. يدوية أو زراعية.. واذكر بهذه المناسبة لقاء لي في ثمانينيات القرن الماضي.. مع رئيس وزراء ولاية «نورد راين فستغالمن».. وهي من الولايات الالمانية الكبري.. عندما قال لي من باب التفاخر والتباهي.. ان من بين كل خمس خصات لزوم السلطة.. تباع في المانيا.. ثلاث «خصات» قادمة من الولاية التي يرأس بها مجلس الوزراء!
وهي حالة تدعونا للتفكير جديا.. ووفق ظروف كل محافظة.. بطرح فكرة تخصص محافظات بلدنا في انتاج سلع تتفوق فيها عن غيرها.. وتصبح من العلامات المميزة للمحافظة.. وتفتح ابواب الرزق لاهلها.. برونق الصنعة وجمال الاتقان.. وان تتنافس المحافظات وتتباري في استثمار موقعها الجغرافي وطبيعة سكانها في انتاج سلع والقيام بخدمات تنفرد بها.. لتحسين مستويات المعيشة وتحول دون تفاقم الهجرات المتتالية الي العواصم الكبري التي تركزت فيها الخدمات وارتفاع مستويات المعيشة لعقود طويلة.
واذا كانت رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.. فانني اتصور ان الخطوة الاولي تبدأ بتشكيل مجالس بلدية في كل محافظات مصر.. علي نحو ما كان عليه الحال في اربعينيات القرن الماضي.. تتولي القضايا الرئيسية كالتعليم والصحة والثقافة.. الخ.. وان تشترك جميعها في المهمة العاجلة وهي تحقيق الانضباط واحترام القوانين واللوائح التي نفتقدها هذه الايام.. بشكل لم نألفه أو نعرفه من قبل.. وفي كل الاحوال علينا ان نعترف بأن الحركة - بركة- ونتمني أن تكون في الحركة الاخيرة للمحافظين.. بداية الحركة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف