الوطن
محمد ابراهيم منصور
ناجح إبراهيم «علمانى» ولو كره السلفيون!
فى عالمنا الإسلامى «العلمانية» مصطلح مُتهم، مغضوب عليه، محاصر، مضروب حوله سياج من الجهالة وسوء القصد، وسيف اتهام مُشرَّع فى وجه المجددين والمبدعين والمفكرين. كان بإمكان مثقف كبير هبط علينا من عصر النهضة مثل حلمى النمنم، وزير الثقافة، أن يتحاشى سهام الجهالة التى تناوشته من كل جانب، وأحجارهم التى رجمته من كل صوب لو أنه دار حول المصطلح المراوغ، وبدلاً من أن يصف مصر بأنها «علمانية» بالفطرة، والحق أنها كذلك! كان من الممكن أن يلتف النمنم حول هذه الحقيقة، كما تقتضى المواءمة السياسية، ويصف مصر بأنها دولة «مدنية» بالنشأة والتاريخ. وهى صفة مرادفة للدولة العلمانية أو قريبة منها وشكل من أشكال تجلياتها، أو يصف مصر «بالدولة الديمقراطية» ليس بالمعنى الضيق للديمقراطية وهو حكم الأغلبية، ولكن بالمعنى الواسع الذى يضمن التسامح مع الحريات الدينية وغير الدينية، والديمقراطية بهذا المعنى تطوى «العلمانية» تحت جناحيها، وتصبح الأخيرة وجهاً من وجوهها.

فى بعض الأحيان يحنى الأصوليون والسلفيون رؤوسهم للعاصفة ويقبلون «دولة مدنية بمرجعية دينية». وكأنهم يقدمون تنازلاً سياسياً. محنة العلمانية أنها مصطلح نشأ فى بيئة ثقافية مغايرة وظهرت فى عصر مغاير، وكانت نتاج صراع طويل امتد قروناً بين السلطتين الزمنية والروحية، صراع انتهى بفصم العلاقة بين السلطتين وإعطاء «ما لقيصر لقيصر وما لله لله». لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين، بل تقف على الحياد منه، وفى بعض الأحيان كانت العلمانية مصدراً لازدهار الأديان كما فى أوروبا الآن، وإلا لماذا يهاجر المسلمون من ظلم داعش وبطش القاعدة إلى الدول العلمانية فى الغرب؟!. وفى أحيان أخرى استخدمت العلمانية لحماية الأديان من تدخل الدولة، كما حدث فى الولايات المتحدة فى القرن الثامن عشر عندما استخدم حق النقض عام 1786 ضد اعتماد ولاية «فيرجينيا» للمذهب الإنجليكانى كدين رسمى، وقتها قال الرئيس الأمريكى الثالث جيفرسون «الإكراه فى مسائل الدين هو خطيئة واستبداد، وأن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم. والعلمانية -فى معنى من المعانى- تعنى أن الأمم الحديثة لا يمكن أن تبنى هويتها على أى من الخيارات الطائفية، وهى كما وصفها جورج هوليوك -أول من ابتدع مصطلح العلمانية فى عام 1851- «نظام اجتماعى منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده». وفى رأيه أن العلمانية «لا يجب أن تفهم بأنها ضد المسيحية. هى فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها».

إذن لا تعارض ولا عداء بين العلمانية والدين، عداء يستدعى تحريض الدهماء والغوغاء على المثقفين والطعن فى إيمانهم. وهناك دول تنص دساتيرها على دين معين للدولة كمصر ومالطة وموناكو واليونان، غير أن دساتيرها تحوى المبادئ العلمانية العامة كالمساواة بين جميع مواطنيها وكفالة الحريات العامة. وهناك دول مثل الهند تنص دساتيرها على العلمانية الكاملة، ومع ذلك تقدم الدولة سنوياً إعانات للحجاج المسلمين وصلت فى عام 2007 إلى 48 ألف روبية هندية لكل حاج هندى. أما دستور أستراليا -وهى دولة علمانية- فلا يفرض قيوداً على الحريات الدينية أو ممارسة الشعائر أو التمييز بين أتباع الديانات المختلفة فى مناصب الدولة والحياة العامة.

وقد استجلبت الدولة العلمانية العداء على نفسها، لا لأنها ضد الدين والتدين، كما يشيع السلفيون والأصوليون، وإنما لأنها ضد الثيوقراطية، وبالتالى تعتبر حكماً مدنياً. والثيوقراطية هى حكم «الأكليروس» أى طبقة رجال الدين، إما عن طريق إدارتهم للدولة مباشرة، أو عن طريق غير مباشر، من خلال جماعات لم ينتخبها أحد انتزعت سلطة مطلقة غير مقيدة، تجيز لها، بسلطان القهر والتكفير، حق تمرير التشريعات والقرارات والإبداعات الفنية والأدبية أو الاعتراض عليها دون نقض أو إبرام! بهذا المعنى ليست مصر فقط «دولة علمانية» بالفطرة كما وصفها حلمى النمنم وهو مثقف -قبل أن يكون وزيراً- ذو حس تاريخى نقدى، ولكن الإسلام أيضاً، كما قال حسن حنفى، هو فى حد ذاته «دين علمانى» ازدهرت حوله حضارة إنسانية وارفة الظلال. والنموذج الإسلامى عنده قائم على العمانية، بمعنى غياب الكهنوت واختفاء الإكليروس والمؤسسات الدينية الوسيطة. والأسس التى تقوم عليها العمانية باتت مقبولة حتى من السلفيين أنفسهم، ألم يُمرِّر ممثلو حزب النور السلفى، وإن يكن من باب التقية، فى 2014 دستوراً علمانياً بامتياز، يقوم على ذات الأسس التى تقوم عليها العلمانية وهى «المواطنة» التى تعنى فرصاً متساوية فى الحقوق والواجبات لكل المواطنين بغض النظر عن الدين أو اللون أو العرق أو النوع ويحترم الحريات العامة والخاصة، ويستظل فيه المواطنون بسيادة القانون. هذه بعض أوصاف الدولة العلمانية التى ما أن يجىء الحديث عنها فى أى سياق إلا وتستفز السلفيين والأصوليين، فيستنفرون آلة التكفير، ويدفعون «بالتجريدات» إلى ميدان المعركة يدافعون عن إسلام فى غنى عن دفاعهم عنه. آخر من دخل معركة العلمانية المفترى عليها واصطاده السلفيون إلى مربعهم، الدكتور ناجح إبراهيم العائد لتوه من رحلة «المطهر» -من وحى رسالة الغفران لـ«دانتى»- غسل فيها تاريخاً تاب عنه توبة نصوحاً وكان «ناجح» علمانياً بامتياز وهو يسوق الدليل وراء الدليل لينفى علمانية مصر فإذا به يثبتها. فلو لم تكن علمانية ما كان لها أن تحتضن السيد المسيح وأمه العظيمة مريم عليهما السلام من بطش الرومان، أو أن ترحب بآل البيت الذين فروا من «الفتنة الكبرى» إلى «الأمان الأكبر». وما كان لها أن تعطى ملاذاً آمناً للأحرار والمفكرين والكتاب الذين وجدوا فيها واحة للحرية والأمن والإبداع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف