الوطن
محمد ابراهيم منصور
البرلمان الأغلى
كثيرون ينهشهم الخوف ويستبد بهم القلق كلما تسارع العد التنازلى للانتخابات البرلمانية، التى أوشكت -بعد انتظار طويل- أن تنصب سامرها الذى لن ينفض حتى يأتى بالبرلمان الجديد، وهو (أغلى) برلمان فى تاريخنا النيابى كله بمرحلتيه الليبرالية وغير الليبرالية، لا قياساً -كما يتهكم الخبثاء- (بتكلفة الرأس) أى «بأسعار» نوابه التى تراوحت -فى بورصة الانتخابات- بين مائة ألف جنيه ونصف المليون جنيه للنائب الواحد. وكما فى عالم التجارة، فإن السعر يحدده الاسم والعلامة التجارية، فالأسماء المشهورة والظاهرة هى الأعلى سعراً من الأسماء المغمورة التى جاءت من مقاعد المتفرجين فى الحزب الوطنى المنحل، وليست من قوائم اللاعبين الأساسيين أو حتى الاحتياطيين. وهى أسعار قد توغر صدور المانحين الأجانب والمتعاطفين مع الاقتصاد المصرى فى أزمته الخانقة، وتغل أيديهم عن المساعدة وتقبضها عن فعل الخير، وللمانحين بعض الحق، طالما أن بعض الأحزاب المصرية «تتمرغ» فى ثروة، قررت أن تبعثرها فى «شراء» النواب، والاستثمار فى «بضاعة» ظنت أنها لا تبور. وكيف تبور والبرلمان -تاريخياً- كان يفتح على (نوابه) و(أحزاب نوابه) أبواباً واسعة للنفوذ والثراء والوجاهة الاجتماعية والصعود الطبقى؟!

إذا لم يكن البرلمان المقبل هو (الأغلى) بهذا المقياس، فإنه (الأغلى) بما يمتلك من صلاحيات دستورية واسعة، لم تكن تحلم بها البرلمانات المصرية السابقة منذ أن عرفت مصر الحياة النيابية فى القرن التاسع عشر. يُخشى أن تفتح هذه الصلاحيات، التى غالت لجنة الخمسين -عن سخاء- فى توسيعها، الطريق لبرلمان «نافش ريشه» متغول، مفتون (بتضخّم) سلطته على حساب السلطتين التنفيذية والقضائية. وهل ثمة ما يضمن نواباً حديثى عهد بالسياسة، وأحزاب أنابيب مبتسرة بلا هوية سياسية، وُلدت قبل نضوجها فى رحم الشارع، وبعضها تشكل لمجرد أن (يقتنص) فى مواسم الصيد الانتخابى فرصة للوصول إلى البرلمان، هل سيسىء برلمان من هذا النوع استخدام صلاحياته التى جاءته على طبق من فضة، أم سيدق أوتاداً راسخة للاستقرار المنشود، بعد أن بلغت خارطة الطريق منتهاها، واستكمل مثلث الثورة أضلاعه الثلاثة، الرئيس والدستور والبرلمان؟!

قد تكون لجنة الخمسين، ورئيسها سياسى محنّك، أخطأت التقدير، وبدلاً من أن توازن -لا أكثر- بين السلطات أعطت البرلمان من الصلاحيات ما لم تعطه للرئيس، أو فوق ما أعطت للرئيس، وما لم تعطه أيضاً للسلطة القضائية. والخوف كل الخوف أن تجور هذه الصلاحيات الواسعة الممنوحة دستورياً للبرلمان على السلطتين الأخريين، وتكبح قاطرة الرئاسة المنطلقة نحو غاياتها القومية الكبرى.

وقد يكون للجنة عذرها وهى ترى شبح (الطغاة) السابقين، ونحن ما زلنا قريبى عهد بهم، ماثلاً أمامها، ولم تكن البرلمانات السابقة التى تأتمر بإشارة إصبع من (صبية) الرئيس ووريثه قد مُحيت ذكراها بعد. وكيف تُمحى، وأحد هؤلاء الصبية لا يكف -فى غيبة من حمرة الخجل- عن تذكيرنا بتاريخه المجلل بعار التزوير وإفساد الحياة السياسية، كأن لا ثورة هبت ولا شعباً ثار؟ وما زال «الطفل المعجزة» المحظوظ الذى أدمن دور (المحتكر) فى الصناعة والبرلمان يشاكس لجنة الأحزاب، بحثاً عن مقعد فى برلمان الثورة التى «خلعت عمه» عن عرشه! من يدرى ربما صار رئيس الأغلبية البرلمانية، لآل البوربون العائدين معه!

لقد وصف الرئيس السياسى الدستور بأنه «دستور النوايا الحسنة». لكن الرئيس قال (صدر) البيت، بلغة الشعر، أى الشطر الأول، وسكت بأدبه الجم عن (عجزه) أى شطره الثانى، وهو أن «الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة». وبعض العوار فى الدستور لا يستعصى على التعديل والتصحيح، المهم أن يأتى البرلمان المقبل بأغلبية تأخذ هذا التعديل مأخذ الجد، وأن تنزع عن الدستور عواره وتعيد إليه «انسجامه» «وتوازنه». قد يكون من الضرورى أن يضع البرلمان المقبل على رأس جدول أعماله تصوراً حول مواد الدستور التى يجب أن يلحقها التعديل والتغيير، والآليات الدستورية المقررة لإجراء تلك التعديلات اللازمة لبعض المواد، أو حتى إلغاء مواد أخرى واستحداث غيرها. فالدستور فى التحليل الأخير ليس «كتاباً مقدساً» منزلاً من لدن عزيز حكيم، لكنه عمل بشرى قابل للزيادة والنقصان. ونعترف بأن أجندة البرلمان المقبل متخمة بالقوانين والتشريعات والمهمات الصعبة التى لا تقبل التأجيل، دعت البعض إلى وصفه بأخطر البرلمانات فى تاريخنا النيابى، لكن هل هناك خطوة تسبق فى أهميتها الشروع فى إجراء التعديلات الدستورية؟ وهل هناك من سبيل يضمن تحقيق التوازن المفقود بين سلطات الدولة الثلاث إلا تعديل المواد المتعلقة بباب نظام الحكم، التى يشكل بقاؤها (لغماً) قابلاً للانفجار فى أى وقت، ويمكن أن يفسد العلاقة بين السلطة التنفيذية، والبرلمان، ويقود إلى مناخ من الاضطراب والتوتر قد ينتهى بحل البرلمان نفسه. أوليس النظام الانتخابى أيضاً، وهو مثال صارخ للعوار الدستورى، يضم مواد إن لم يعتورها التعديل كانت إيذاناً بحل البرلمان نفسه والطعن فى شرعيته؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف