بوابة الشروق
فاروق حلمى
محاربة الفساد بمصر تحتاج لأسلوب آخر
إن الطريقة التى تم التعامل بها مع وزير الزراعة من احتجاز مكشوف على الملأ فى ميدان التحرير وكأنه مجرم خطير هارب، إنما هى تصرف مشين يسىء لمصر ولا يخدم قضية مكافحة الفساد فيها فى شىء.

فاختيار هذا المكان الذى تفجرت فيه ثورة مجيدة ضد الفساد عام 2011 للادعاء بأن الدولة تحارب الفساد ــ بدليل إطاحتها بمرتكبيه فى أعلى المراكزــ لا يمكن أن يرى على أنه يلبى أحد أهم طموحات تلك الثورة، فالمشكلة أكبر وأعمق من ذلك بكثير. وهو بلا شك يحط من قدر المنصب الوزارى والنظرة للوزراء، بينما هم أصلا لا يتمتعون بالقدر الكافى من الاحترام بين عامة الشعب. فكيف نريد أن يثق المواطن فى ادارتهم لشئون البلاد والحكومة نفسها تهدر كرامتهم بهذا التشهير العلنى؟ وكيف نريد أن يؤدى الوزراء واجباتهم فى اطار من الاعتزاز بالنفس والهيبة الضرورية للوظيفة؟

إن القبض على الوزير فى الشارع وفى وضح النهار لن يعطى رسالة للعالم بأننا نحارب الفساد، فهو يعلم أنه ضارب الأطناب ولن تجدى فيه أنصاف الحلول أو عمليات جزئية كهذه، ولن يطمئن المستثمر الأجنبى المتردد فى المجىء لمصر إلى أن الأحوال انصلحت، فمازالت القوانين واللوائح لم تعدل ومازال المناخ غير موات ولم يبدأ بعد تصديا حقيقيا لمشكلة الفساد. فهو يهمه أن يستثمر ماله فى مكان يسعى للحد من الفساد، ويلم بتقارير وسائل الاعلام الأجنبية التى تتحدث تفصيلا عن انتشاره على جميع الأصعدة عندنا، بما فى ذلك الاشارة لصناديق خاصة لجهات عليا بالبنوك لا تخضع لرقابة الدولة ولا يمسسها الإصلاح.

***
عودة لمسألة الوزير، إن الصين التى تشن حربا شعواء على الفساد لم تقبض على كبار المسئولين الذين اكتشف فسادهم فى الشوارع، ولم تنشر صورا لواقعة القبض عليهم. حقيقة نشرت أخبارا فيما بعد عن تجريدهم من مناصبهم الوزارية بالحكومة والقيادية العليا بالحزب الحاكم، لكنها لم تنشر صورا لهم الا وهم فى المحكمة بعد أن أثبتت التحقيقات توفر أدلة على جرائمهم ووجه اليهم المدعى العام للشعب التهم رسميا. وهكذا حافظت الدولة هناك على هيبة مسئوليها الكبار، أما نحن فسوف نحتاج عشرات السنين لإصلاح ما ارتكب بحقهم فى هذه الواقعة.

وعلينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ونعترف بأن وباء الفساد فى بلادنا أكبر بكثير من أن نتوهم أن واقعة مثل هذه تعد دليلا على مجابهة الدولة للمشكلة. ينبغى أن نسلم بأن محاربته لم تتحرك لدينا بعد بما يتناسب مع جسامة هذه الآفة، ولم تتخذ بصددها إجراءات فعالة فى العهد الجديد الذى تعلق الجماهير آمالا عريضة عليه. وهى لن تصبح حقيقة واقعة الا اذا أقدمت الدولة على خطوات حاسمة بشأنها، وأكدت التزام الحكومة وكافة الأجهزة بها بالأفعال وليس بالأقوال فقط.

فالمأمول أن تقوم القيادة بالإعلان عن إطلاق حملة قومية شاملة ومنظمة ضد الفساد بجميع صوره وعلى مختلف المستويات، ولنقل لمدة سنتين يتم فى نهايتهما تقييم الأداء وما تحقق منها وما تحتاجه من تعديل.
والمرجو من أجل تفعيل هذه الحملة المسارعة بتكوين فريق مستقل من كبار الخبراء والقانونيين والشخصيات العامة والمفكرين (وليس مجموعة من المستشارين القانونيين المعدودين على الأصابع)، لكى يتولوا وضع تصورات بشأن الاستراتيجية والبرامج التنفيذية التى تتبع فى تلك الحملة، ومقترحات بشأن إنشاء «هيئة عليا مستقلة لمحاربة الفساد» تعلو الأجهزة الرقابية القائمة وتنسق بين أنشطتها أو تدمج الأخيرة فيها أيهما أصلح، وإنشاء وحدات للهيئة بمختلف الوزارات والمؤسسات والمحافظات لتتبع المخالفات على طريق ممارسة نشاطها، بالإضافة لسبل اتاحة الفرصة للشعب للكشف عن وقائع الفساد من خلال مواقع الكترونية مع توفير الحماية للمبلغين والشهود.

ولتكن أول مهمة لمجلس الشعب الجديد تشكيل لجنة لتقصى الحقائق بشأن المخالفات التى رصدها «الجهاز المركزى للمحاسبات» منذ عدة أعوام، وأسباب السكوت على ما وجهه من اتهامات بممارسات فاسدة فى مختلف الأجهزة ومنها الحساسة، وما تعرض له بسبب ذلك من هجوم من مسئولين بالدولة ومنهم على مستوى وزارى. وسيكون تبيان الحقيقة بشأن مئات الانتهاكات التى أبلغ عنها الجهاز والتقصير فى التعامل معها هو الاختبار الذى يظهر كم نحن جادين فى حملتنا المضادة لهذا السرطان.

***
ومن الأجدر بنا أن نستفيد من التجربة الصينية الفعالة فى محاربة الفساد، والتى تستمر منذ ثلاث سنوات فى رصد الانتهاكات ليس فقط من حيث ارتكاب جرائم استغلال النفوذ والرشوة والاختلاس وإهدار المال العام والاثراء غير المشروع، وانما أيضا التبذير والبيروقراطية والتقصير فى حقوق المواطنين ومصالحهم الشخصية. وقد نجحت السلطات فى ضبط ومعاقبة مئات الألوف من المخالفين، وفى إعادة مئات المجرمين الهاربين للخارج واسترداد الأموال المنهوبة.

وللتدليل على نجاح الحملة الصينية التى نأمل أن نحذو حذوها لتطهير مجتمعنا، أظهرت تقارير رسمية أن السلطات هناك عاقبت 232 ألف مسئول على جميع المستويات خلال 2014 وحده، وتمت فى ذلك العام محاكمة 72 ألفا لجرائم وظيفية تمتد من الاختلاس والرشوة للإهمال فى الواجبات ومنهم من هو على مستوى وزارى أو أعلى، ونحو 8 آلاف من مقدمى الرشاوى. وانطوت الأحكام على الإعدام والسجن لمدد تصل لمدى الحياة مع الحرمان من الحقوق السياسية ومصادرة الثروة. بينما تضمنت عقوبة المخالفات الأقل الطرد من صفوف الحزب وتخفيض درجة المنصب أو التنحية منه، ونشر الأسماء علنا فيما سمى «قوائم العار». فضلا عن إقالة المئات من وظائف بالشركات جمعوا بينها وبين مناصبهم الحكومية.

ولم تكتف السلطات الصينية بالاعتماد على الأجهزة الرقابية القائمة، وانما شكلت «مكتبا أعلى لمكافحة الفساد» على مستوى نائب وزير ويضم عشرات المدعين المتميزين، وأدمجت فيه أجهزة الرقابة القائمة. هذا بينما نحن نظل نعتمد على نفس الأجهزة القديمة التى ترعرع الفساد تحت سمعها وبصرها عشرات السنين، وأثبتت عدم فعاليتها نتيجة خضوعها للقائمين على الحكم وعدم احترام صفتها المستقلة، التى ينبغى عدم المساس بها الآن إذا أردنا أن تمارس عملا موضوعيا متجردا وتحقق إنجازات حقيقية لصالح هذا الشعب.

اننا نتطلع لأن تتحقق لدينا مكاسب تفيد المواطنين من وراء حملة جادة للقضاء على الفساد مثلما حققت الصين من وراء حملتها الضارية، حيث لم يعد الموظفون أحرارا فى اكتساب مميزات من مناصبهم، وأعاد مسئولون كبار سيارات وشققا تملكوها بطرق مخالفة للوائح، وأوقف تنفيذ مشروعات غير متمشية مع القواعد، وألغيت الرحلات غير الضرورية للخارج، وتقلص الانفاق من الأموال العامة على البنود غير الضرورية. وأصبح من تسول له نفسه استغلال السلطة أو الاثراء من ورائها يعتبر ممن أنزل بهم أشد العقاب، وأصبح الموظفون المهملون أكثر اهتماما بأداء الواجب وتقديم الخدمة العامة للمواطن. ولنا أن نتخيل ما ستجنيه مصر من حملة مماثلة.

ولا يمكن أن نقلل من أهمية التصدى الحقيقى لكابوس الفساد بدعوى أن أولى الأمر ورثوا تركة ثقيلة تستأثر بكل جهودهم، وأن الاصلاح يجب أن يكون تدريجيا وممتدا على آجال طويلة، فظروف مصر لا تحتمل الانتظار بل يجب أن تسير كل هذه الجهود متزامنة لتسند وتدعم بعضها البعض. كما يجب ألا نتصور أن الحرب مع الارهاب لها الأولوية على كل ما عداها، فمشكلة الفساد تحتاج لحربا لا تقل ضراوة باعتبارها آفة الآفات التى يعانى منها المجتمع، وتستنزف موارده المحدودة، وتبعد المستثمرين عن طرق أبوابنا ونحن فى أمس الحاجة لاستثماراتهم وللتقدم الفنى والتكنولوجى القادم معها.

***

يجب أن نضع فى اعتبارنا أننا لن نوفر موارد الدولة ونحمى أموال الشعب فقط بإطلاقنا لمثل هذه الحملة الشاملة، ولن نخاطب من خلالها فقط الظاهرة الخطيرة لتواصل اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى مجتمعنا، وانما سنتصدى من ورائها أيضا لمشاكل التدهور الأخلاقى المستمر الناجم عن بث قيم قبيحة وضارة فى نفوس المواطنين، وتنشئة أجيال جديدة على تلك القيم وإحلالها محل ما كان سائدا بين صفوف شعبنا العظيم فى الماضى من أخلاقيات حميدة. ولسوف نخلق بحملة التطهير هذه ثقة جديدة للجماهير فى السلطة والحكومة، تمكن القيادة من حشد جموع الشعب بمختلف طوائفه وراء عملية اعادة البناء بما تتطلبه من تضحيات لسنوات قادمة غير قليلة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف