الصباح
كمال حبيب
«هاتف الخلافة».. تفاصيل أول محاولة للجهاديين للانقلاب على الدولة
>> الإخوان لعبوا دورًا فى «أحداث الفنية العسكرية» فى عصر السادات
>> الجماعة بحاجة لمراجعة موقفها بعد عامين من المواجهة المفتوحة مع الدولة المصرية

يمثل كتاب «هاتف الخلافة» أحد النماذج المهمة لمراجعة واضحة من أحد المنتمين للتيار الإسلامى وهو مؤلفه أحمد الرجال، شارك المؤلف مع تنظيم الفنية العسكرية فى مطلع السبعينيات، ووقف على أبواب الفنية العسكرية مكلفًا يوم اقتحامها فى 18/4/1974 بقتل أحد حراس أبواب الكلية باستخدام مطواة وحبل، وحينها أفاق من الغمة التى أحاطت بعقله وبصره ونفسه وقرر عدم الاستمرار فى عملية تقوم على قتل بدائى لحارس يقف على باب منشأة عسكرية، هذا الحارس من المؤكد أنه مسلم، وأنه ربما يكون قد انتهى منذ قليل من صلاة العشاء.
يكشف أحد الرجال أن أحد حراس أبواب الكلية الفنية الذين قصدهم أعضاء التنظيم بالهجوم والقتل البدائى بالسكاكين والحبال كان ابنا لمدربه فى أحد نوادى كفر الدوار، وهنا تتبدى المأساة، وهى أنك قد تذهب لتقتل شخصًا فى سبيل سعيك لإقامة الدولة الإسلامية، وهذا الشخص يؤدى واجبه ثم تكتشف أنك تعرفه فيما بعد، تلك أحد وجوه مأساة السعى للقتل البدائى للجنود على أبواب المؤسسات التى يتصور من يسعى لإقامة الخلافة الإسلامية أنهم هم من يقف دون سعيه لتحقيق وهم لن يأتى، وهو وهم «الخلافة الإسلامية».
استخدم مؤلف الكتاب الدكتور أحمد الرجال تعبير «هاتف الخلافة» ليكون عنوانًا لما عايشه وهو فى التنظيم تداعب أحلامه استعادة الخلافة الإسلامية حين كان طالبًا صغيرًا فى مطلع حياته فى كلية الطب بجامعة الإسكندرية ولم يجاوز بعد سن العشرين من عمره.
كانت الأحلام تصور للمؤلف أن حلم الخلافة سيعود عبر التنظيم الذى يقوم هو وزملاؤه صغار السن بتأسيسه، دون أن يدرى أن هذه التنظيمات ليست سوى مصيدة لخيرة شباب مصر والعالم العربى والإسلامى للدخول فى مواجهة غير محسوبة مع الدولة تكون نتيجتها قتل الأنفس المعصومة التى حرم الله قتلها إلا بالحق، ودخول التيارات الإسلامية فى عداوة مع دولهم بلا معنى سوى أوهام حول قدرة تلك التنظيمات على عمل المستحيل، بينما تلك التنظيمات فى الحقيقة لا تقود تلك الجماعات وشبابها فى الحقيقة إلا إلى المجهول.
الدكتور كمال حبيب شرح فكرة الهاتف فى مقدمته للكتاب، وحاول بناء وصف لمعنى الهاتف وبعض المؤشرات التى تساعد على إمكان استخدام مصطلح الهاتف لفهم دوافع الشباب الذى يقدم حياته بلا ثمن فى سبيل أوهام لا تأتى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وكما يقول فى مقدمة الكتاب «الهاتف فى الحقيقة هو فعل نفسى ذو طبيعة حشدية تنادى فى الإنسان عوامل الإقدام والشجاعة والنخوة لاستعادة ما فقد، ومن ثم تثير قلقه وتدفعه للتحرك بلا خطة ولا سؤال عن المستقبل ولا بحث عن الكيفيات، ولكنها صيحة غامضة مجهولة تحيط بالنفس والروح تدفعها إلى أقدارها حتى لو كان فى ذلك حتفها أو موتها».
يشرح كاتب المقدمة أن المؤلف عاش بهواتفه التى زينها له أصدقاؤه، وهنا إحدى المشكلات الكبرى فيما يمكن أن نطلق عليه «هواتف الإسلاميين»، التى تزين لهم وتحسن لهم وتمدح لهم الطريق فى مبتدأه، ثم حين يسيرون خطوات إلى الأمام فإن الهواتف تبقى هى الطاغية والمسيطرة».
حين سأل مؤلف الكتاب أحمد الرجال «وهو عضو فى التنظيم»، عن أمير التنظيم قالوا إنه رجل مهم وله علاقة بكبار المسئولين ويخالط المتنفذين فى الدولة، وأنه عقلية فذة وكبيرة، وأن التنظيم فيه عسكريون وهم من سيقومون بالعمليات الرئيسية بينما المدنيون سيعاونون فى هذه القصة، وحين جد الجد فإن التنظيم لم يكن فيه عسكريون، بل إن عملية الفنية العسكرية ذاتها التى تم إقحامها على خطط التنظيم جاءت بعد أن تعجل أعضاء التنظيم من الشباب تنفيذ انقلابهم ضد الدولة المصرية ونظام السادات، وهنا وجد صالح نفسه مكرها على تنفيذ خطة وضعها كارم الأناضولى انتقامًا من قادته الذى كان بينه وبينهم خلافات قاسية، أشار إلى بعضها فى خطبته أمام المحكمة.
ويشير حسن الهلاوى فى شهادته بالكتاب عن قيام الشباب المصرى المتعجل الصغير المندفع بالانقلاب فعلًا على صالح سرية، واضطر هو أمام ذلك الانقلاب والاتهام له بالحرص على حياته وزوجته وأولاده الذين كانوا يبلغون تسعة أولاد أن يقحم الفنية العسكرية فى الخطة وفقًا لما أراده كارم الأناضولى فى ذلك الوقت.
تعد الفنية العسكرية أول محاولة انقلابية ذات طابع عسكرى ضد الدولة المصرية، كما يعد شبابها فى ذلك الوقت من وضع بذرة الفكر السلفى الجهادى القائم على اعتبار أن القوة هى وحدها سبيل التغيير، وأن الحكام كفار ولا بد من مواجهتهم، وهنا أقحم فكر التكفير فى مواجهة الحاكم، لكنه سيتسع من بعد ليشمل دوائر أوسع استطالت حتى نال رذاذها المسلمون جميعا، وهنا ندخل من السلفية الجهادية إلى التكفير، وتعد السلفية الجهادية الباب الملكى بلا شك لتكفير المسلمين.
وقد أرخ للفنية من قبل «كارم الأناضولى» فى كتابه مذكرات كارم الأناضولى.. صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الإسلامية من النكسة إلى المشنقة، وهو طبعها طبعة ثانية بعنوان «صفحات مجهولة من تاريخ الإخوان المسلمين.. القصة الحقيقية لأول محاولة انقلاب إسلامى فى بداية عهد السادات»، وهو هنا - أى طلال فتح الباب واسعًا لدور الإخوان فى تربيط مجموعتهم الشبابية مع صالح سرية، وهو يؤكد أنهم كانوا الذراع العسكرية والسرية لجماعة الإخوان المسلمين حين قاموا بتلك العملية، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لدور الإخوان فى أحداث الفنية العسكرية.
ويأتى كتاب «هاتف الخلافة.. شهادة جديدة على أحداث الفنية العسكرية» ليسمعنا صوتًا جديدًا مختلفًا عن صوت طلال، وإذا كان طلال يتحدث عن التنظيم فإن الرجال يتحدث عن نفسه ومحاولة تبرئتها، وأنه لم يكن كما قيل عنه هو من أبلغ عن التنظيم، بل كان ضميره الداخلى ووازعه الإسلامى هو الذى دفعه إلى بيت رئيس الجمهورية لمنع وقوع المذبحة، كما أطلق عليها خوفًا على زملائه وخوفًا على من سيتم قتلهم، لقد ذهب ضحية الهجوم على الفنية العسكرية 13 قتيلًا من المهاجمين والحراس، وكلهم من أبناء بلد واحد ومسلمين، وهو ما يعنى طابع الفتنة فى هذا العمل.
ليس بعيدًا عنا ما يقوم به الشباب المسلم فى الذهاب بعيدًا إلى العنف، والهجرة إلى سوريا والعراق ومبايعة أبى بكر البغدادى بحثًا عن وهم الخلافة الإسلامية وهاتف الخلافة كما أطلق الرجال عليها، ومن هنا فإن كتاب الرجال ونصائحه وقد جاوز الستين لأبنائه بعدم الذهاب سراعا خلف الهواتف، وحفظ مادة دمائهم وأنفسهم لبلادهم وأهليهم بعيدًا عن المشاعر والعواطف التى تهدر تلك المادة بلا ثمن، ما يفعله الشباب اليوم هو تكرار لما جرى فى حادث الفنية العسكرية وكأننا لا نستفيد من أخطائنا ولا نتعلم منها.
فى الكتاب وثائق مهمة عن التحقيقات كاملة مع زينب الغزالى ومع الشيخ سيد سابق ومع الشيخ محمد الغزالى، وفيه وثائق مهمة للجدل حول دور الإخوان فى عملية الفنية العسكرية، قام محرر الكتاب بعرضها دون أن يرجح فيها رأيًا لأنه لم يترجح لديه ما يرجحه، ومن ثم فقد ترك للقارئ ترجيحاته هو، ففيه رأى ياسر سعد وشهادته والتى يقول فيها إن الإخوان هم من أسسوا الجماعة وكانوا هم أداتها، وفيه رأى محمد السيد سليم الذى يرى أن مجموعة الفنية استقلت عن الإخوان بتنظيمها وأفكارها وأنها جاوزت علاقتها الأولى بالإخوان المسلمين.
وأعرف أن البعض سيتحفظ على تلك الشهادة بيد إن محرر الكتاب ومقدمه وناشره تعاطف جدًا مع رغبة المؤلف فى أن يدلى بشهادته فى قصة كان هو من بين فاعليها الرئيسيين، وأن يقدم دليل براءته مما قيل أنه بلغ عن زملائه حين رفض العنف وبأن له أن القصة كلها كانت هاتفًا، ولم تكن عملًا حقيقيًا منظمًا.
فى الأحداث الأخيرة التى عرفتها مصر بعد 30 يونيو ظهر لنا أن الهواتف لا تجذب فقط الشباب الصغار فى السنة، ولكنها جذبت حركة كبيرة كالإخوان المسلمين، وبعد ما يقرب من سنتين فى مواجهة مفتوحة مع الدولة المصرية يتحدث بعض قياداتها عن البحث عن مخرج للتفاوض مع الدولة المصرية يحول بين الجماعة وبين تشتتها وانقساماتها الخطيرة، وتبقى الجماعة التى أخذت الإسلاميين جميعًا إلى مواجهة مفتوحة لا قبل لهم بها مع الدولة المصرية والمجتمع المصرى بحاجة إلى وقفة تراجع فيها ذاتها وتتجاوز تعاليها، وتعلى مصالح الدين والأوطان على مصالح ذاتية وخلافات وانقسامات تقودها هواتف الجان والشيطان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف