الوطن
سعد الدين هلالى
امتهان الأمن
المهنة بكسر الميم وفتحها تُطلق فى اللغة وفى اصطلاح الفقهاء على الصنعة أو العمل أو الوظيفة التى يحترفها صاحبها، يعنى يتفرّغ لممارستها بما تميزه، خبرةً ومهارةً وحذقاً، حتى تكون المصدر الرئيسى لاكتساب رزقه، وهو ما يُعرف بالاحتراف. وسُميت مهنة لأن صاحبها يبذل نفسه فيها حتى يكون ممتهناً، والامتهان هو الابتذال فى تقديم النفس واستخدامها. والمهنة قدر الإنسان فى الدنيا حتى الأنبياء؛ لأن الله تعالى أقام ناموسه فى الأرض على ذلك فقال سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ» (البلد: 4)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» (الانشقاق: 6). وكان النبى، صلى الله عليه وسلم، يمتهن، كما كان أصحابه، رضى الله عنهم، يمتهنون؛ فقد أخرج البخارى عن الأسود بن يزيد أنه سأل عائشة، رضى الله عنها: ما كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يصنع فى البيت؟ قالت: كان يكون فى مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج إلى الصلاة. وأخرج أبويعلى والبزار عن أنس، قال: أتت النساء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد فى سبيل الله، فما لنا من عمل ندرك به عمل الجهاد فى سبيل الله؟ فقال: «مهنة إحداكن فى بيتها تدرك عمل المجاهدين فى سبيل الله»، وأخرج ابن خزيمة وابن حبان وابن ماجه عن عائشة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، خطب يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار (ثياب صوف فيها تنمير، يعنى بقع كأنها أخذت من لون النمر)، فقال، صلى الله عليه وسلم: «ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته».والمقصود بامتهان الأمن اتخاذه مهنة أو حرفة أو وظيفة، كما تقول: «فلان امتهن الطب» يعنى صار طبيباً، و«فلان امتهن التجارة» يعنى صار تاجراً، و«فلان امتهن الشرطة» يعنى صار ضابطاً فى الشرطة أو أميناً فيها أو جندياً نظامياً لها.والأصل فى الأمن بين بنى الجنس الواحد على ظهر البسيطة أن يوهب بغير مهنة، وأن يُبذل بغير مقابل بحكم الفطرة السوية المخلوقة التى جعلها الله عز وجل صمام أمن بقاء النوع من كائنات الأرض، فلا تجد الأسد المفترس يعدو على أشباله أو أشبال بنى جنسه، ولا تجد الثعبان السام يؤذى أفراخه أو أفراخ بنى جنسه. وكان الأصل أن نرى تأمين الإنسان وبنى جنسه مجاناً على غرار الفطرة السوية التى لم تخرج عنها كائنات الأرض سوى الإنسان الظالم لنفسه؛ كما قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب: 72)، ومن هذا الظلم للنفس الإنسانية وجدنا اقتصار الإنسان على بذل الأمن مجاناً لبنيه وبعض بنى جنسه، وشحه فى بذل الأمن للآخرين إلا بمقابل، بل كثيراً ما ينحرف الإنسان بظلمه عن فطرته فيعتدى على بنى جنسه حتى اضطر إلى استحداث مهنة الأمن بأجر أو بمقابل، لحماية بنى جنسه من أنفسهم، مما لا نراه فى مخلوقات الأرض الأخرى، مما يجعل الإنسانية فى موقف لا تُحسد عليه أمام مجانية الأمان بين بنى الجنس الواحد من دواب الأرض الأخرى.وإذا كان الله عز وجل، قد منح الإنسان مشيئة تمكنه من سيادته على نفسه فى الدنيا، حتى يتحمل مسئولية تصرفه فإنه من رحمته تعالى أن أنزل عليه رسالاته السماوية لتنويره وهديه حتى لا يتمادى فى الظلم والغى، وكان من هذا الهدى بشأن التوظيف والمهن أمران:الأمر الأول: أن الدين لله. فلا يجوز أن يكون محلاً للامتهان؛ لقيام الدين على الصلة بالله فيما يُعرف بالنية، وهذه الصلة فردية أو أحادية بين العبد وربه بأى وجه من وجوه الصلة التى تثبت فى قلب العابد وتطمئنه فيما نراه من التعددية الدينية، وليست التى تثبت عند صاحب الخطاب الدينى؛ لأن أصحاب الخطاب الدينى متعددون وكل منهم يعتقد أنه الصواب المطلق، ويعمد إلى حشد الناس إليه من غير تفويض إلهى، وإنما بصياله فيما نراه من مهنة الوصاية الدينية التى أبطلها الله عز وجل، فى قوله سبحانه: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» (الأنفال: 39)، وما ذكره المواق فى «التاج والإكليل» عن عيسى عليه السلام، أنه قال: «إن الله يحب العبد يتخذ المهنة يستغنى بها عن الناس، ولا يحب العبد يتخذ الدين مهنة».الأمر الثانى: أن ما عدا الدين من سائر ما يحتاجه الناس فى إقامة حياتهم على استقامة لهم الحق فى بذله مجاناً فيما بينهم عن تراضٍ، أو تقنينه فى معاملاتهم مهنياً، ومن ذلك حاجتهم إلى أمنهم من بنى جنسهم، على أن يستحضروا كرامتهم الإنسانية التى كانت تلزمهم بحكم الفطرة السوية أن يتعايشوا فى حضارات متنامية مشتركة دون مشاحة بينهم. ألا وقد سقط فى أيديهم بحكم الطفرة أو الانحراف عن الفطرة بالظلم والجهل الإنسانيين فارتضوا بالتقنين المهنى حتى فى أمنهم، فلا أقل من تتويج تلك المهنة الحياتية تاج الرسالة، بحيث إذا تعارض غرضها الطارئ من التكسُّب والأرزاق ورفع مستوى المعيشة مع أصلها الفطرى من التكارم والبذل المجانى لسد حوائج الإنسان قدمنا الأصل الفطرى على الغرض الطارئ، وهذا هو المقصود بتاج الرسالة الذى أخذ اسمه من اسم وظيفة الأنبياء فى إبلاغ الناس هدى السماء دون مقابل، وفى ظل الصبر على مساويهم، كما يحكى القرآن الكريم عن نوح عليه السلام لقومه: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الشعراء: 109)، وتكرر النص الكريم نفس هذا عن سيدنا هود (الشعراء: 170)، وعن سيدنا صالح (الشعراء: 145)، وعن سيدنا لوط (الشعراء: 164)، وعن سيدنا شعيب (الشعراء: 180)، كما قال تعالى عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ» (سبأ: 47).وإذا كانت الإنسانية قد استقرت على امتهان الأمن وغيره من حوائج الناس وجعله من مصادر الكسب والترزّق، فإن هدى السماء يرشدها إلى تاج الرسالة الذى حمله الأنبياء، ثم المصلحون من بعدهم، وهو الذى يدفع بصاحبه الذى تحقق له كفاف العيش أن يبذل الأمن وسائر حوائج الناس مجاناً فى الدنيا ليحييهم من ممات طلباً لأجر الله الذى جعل ثواب إحياء النفس الواحدة وتأمينها بعدد البشر على قيد الحياة زمن إحيائها، كما قال تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32).تُرى كم فاز رجال الأمن فى جيشنا المغوار وشرطتنا الباسلة من أجور لتأمين المصريين، وكم سقط أمين شرطة فى محافظة الشرقية الأسبوع الماضى من عليائه عندما تنازل عن تاج رسالته فامتهن الأمن ولم يعد يرى إلا نفسه وحقوقها. تحية لرجال الأمن وسائر أصحاب المهن الذين يجعلون دونهم ودون تاج رسالتهم الإنسانية الموت فى سبيل الله، وهم يتلون قول الله تعالى لأنبيائه: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف