الأهرام
بهيج اسماعيل
حب الحياة قبل حب الوطن!
اغرورقت عيناي بالدموع ـ والله ـ رغما عني ما إن سمعت صوت السفينتين العملاقتين وهما تعبران قناة السويس الجديدة أثناء خطاب السيد الرئيس..
كانت السفينتان تطلقان التحية لهذا العمل الجليل الذي تم علي أرض مصر.. ساعتها توقف الرئيس عن الخطاب ورد التحية بالتصفيق.. لم أسمع صوت السفينتين كأنه صوت سارينة أوبروجي أو أي صوت صادر عنهما، وإنما سمعت فيه صوت التاريخ.. آتيا من عمق الزمن وأصلا بين الماضي والحاضر ومتطلعا إلي المستقبل.
كان الصوت غامضا متواصلا ملحا كأنما يوقظ النيام ليس في مصر وحدها، وإنما في العالم كله كانت لحظة فارقة فالقناة الجديدة لم تقدم هدية لمصر الجديدة، وإنما لكل دول العالم.. حملت هذا المعني الجديد معي.. البعث الجديد لمصر وذهبت إلي ندوة في اتحاد الكتاب المصري.. وأنا لست متحمسا لهذا الاتحاد.. إذ يكتنفه الخمول ولا يكاد يسمع له صوت، بينما المفروض أنه يمثل إلي حد كبير تجمعا لمثقفي مصر في العاصمة والأقاليم.. لكن يبدو أنه بعد الانتخابات الأخيرة سيطر عليه في مجلسه الثلاثين مجموعة من «المحافظين» الذين اكتفوا بتواجدهم.

ذهبت إلي الندوة.. مع ايماني أن الندوات لم تعد لها جدوي ايجابية في زمن «التوك شو» الذي يخاطب الملايين في بيوتهم ويمثل الثقافة الشعبية السهلة في مقابل ثقافة النخبة متكلسة اللغة.

كانت الندوة عن مقاومة الإرهاب ودور وزارة الثقافة في ذلك.. وكان يمثلها الدكتور أبوالفضل بدران رئيس المجلس الأعلي للثقافة الذي تكلم وأوجز وقال مايجب.. لكنني وقد أصبح انجاز قناة السويس الجديدة في عام مثلا حيا في رأي كنت رأيى أن الحياة ليست خطبا وكلمات ومشاريع وأفكارا وأمنيات علي الورق ولكنها إرادة وفعل.. إرادة وفعلل وحماس للعمل. لذلك كانت أول مطالبي هو البدء بتلاميذ المدارس.. الجيل الحالي والجيل القادم.. كيف نغير مفاهيمهم ومناهج تدريسهم..

كيف نعلمهم أولا ـ وهم في هذه السن الصغيرة التي تثبت فيها المعلومات ـ كيف نعلمهم أولا حب الحياة.. حب الحياة علي الأرض التي يعيشون فوقها.. كيف نعلمهم أن الحياة منحة من الله للإنسان عليه أن يعيشها وأن يستمتع بها.. وأن يسعد بكل تفاصيلها.. كيف يحب الزهرة ويري فيها جمالا وفنا.. كيف يحب العصفور ويري في صوته صوت الموسيقي.. كيف يحب الأشجار والشمس والقمر والنجوم والنسمة والمطر وكيف يري في كل منها شيئا يضيف إلي الحياة.. ونعلمه كيف يكره الموت.. الموت في كل شيء.. وأنه يحرمه من الحياة وأنه عدوه اللدود الذي عليه أن يقاومه في كل صوره.. يكره الصحراء إلي أن تتحول إلي أرض منبتة.. يكره القبح لأنه يحرمه من الجمال.. يكره المرض لأنه يحرمه من الصحة.. يكره الفقر لأنه يحرمه من الحرية..

فالواقع أن نصف المصريين اليوم مهاجرون إلي الدار الآخرة... لايعيشون علي الأرض ولاينتمون إليها وليس بالمواطنين بالمعني المعروف فالتطرف والأصولية والفقر أولا قد جعلهم يتركون الأرض ـ علي أنها شئ مكروه ـ ويهاجرون طمعا في حياة أجمل وأفضل.. لم يشاركوا في تعمير الأرض كما أمرهم الله ولكنهم اختاروا الطريق الأسهل.. لم يحبوا الحياة لأنهم وجدوا من الدعاة من قال لهم إن الحياة الدنيا مكروهة وأنها أرض الشيطان.. وتمادي البعض فقالوا إن كل من فيها كفرة.

إن الخطوة الأولي والأهم والتي لاتحتمل التأجيل هي تغيير كل مناهج التعليم وخاصة في المدارس الابتدائية فما يلقنه الطفل في سنواته الست الأولي ـ حسب علم التربية ـ يؤثر في كل حياته طوال عمره القادم.. تغيير المناهج وابعاد كل ما يجعل الطفل يعاني في المذاكرة أو في استيعاب العلوم.. مع التركيز علي حب الحياة.. فمن المعروف أن الشعب المصري قد ورث حب الموت منذ أيام الفراعنة والاحتفاء بالموت أكثر من الاحتفاء بالحياة، ولعل تراث «العديد» المنتشر في الصعيد بين النائحات خير دليل علي ذلك.. بينما الأفراح في مصر قليلة بالنظر إلي أفراح واحتفالات العالم.. لكن المصري في داخله بذرة الشوق إلي الفرح مما جعله يحول معظم المناسبات الدينية إلي احتفالات حياتية.

الحياة إرادة وفعل.. وما بينهما الحماس.. وإن المصدر الأول للإرهاب ـ الذي يحيط بنا من كل جانب ـ هو حب الحياة والتمسك بها في مقابل نفيها عن طريق هؤلاء الارهابيين الذين يتخذون الموت طريقا للخلاص منها.. انهم قتلة وعدميون وعائدون بالزمن إلي عصر السيف وقطع الرؤوس وحالمون «بحرق الأرض» لو تمكنوا كما قال السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي.. ولكن الحياة أقوي. والخير أقوي من الشر.. والزمن دائما في صالح الحياة.. وتحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف