الأهرام
ابراهيم عرفات
كلام سابق لأوانه
«كلام سابق لأوانه» عبارة مزدوجة المعني. من يقولها يعلن من ناحية رفض النقاش في أمر ما، لكنه يلمح من ناحية أخرى إلى إمكانية ذلك عندما يحين الأوان المناسب. كل ما تعنيه العبارة أن توقيت الكلام غير موات الآن، أما مبدأ النقاش فيبقى قائماً في كل وقت إلى أن تتوافر الشروط الملائمة للشروع الجاد فيه. لكن بما أن أوان الكلام السابق لأوانه سيحين مهما تأخر، وسيأتي شئنا أم أبينا، فقد يكون من الأوفق لمن يهمه أمر المستقبل أن يتحرك نحوه بدلاً من أن ينتظره.

على خلفية هذه المقدمة يعتبر أي كلام عن المصالحة الوطنية في مصر سابقا لأوانه. فهي غير واردة الآن، ومع هذا فإن الوصول إليها يبقى مسألة وقت يمكن خلاله أن تُرسى عدة أسس وأن تُرسخ عدة مفاهيم لا يمكن للمصالحة أن تجري إلا على أساسها. الوقت، بمنتهى الوضوح، ليس وقت المصالحة. لكن مبدأ المصالحة نفسه يظل صحيحاً ينتظر الظرف المناسب لتفعيله. ولم يكن غريباً لهذا السبب أن تفشل دعوات تحقيق المصالحة لأنها جاءت في غير أوانها. فإلى الآن وأطراف المشهد السياسي غير جاهزين لها، بل إن بعضاً منهم ليس مستعداً حتى للمصالحة مع نفسه ولم يختر طرق العمل التي تمهد لها. كما لا توجد قواسم مشتركة كافية بين مختلف الأطراف تؤسس لنجاح المصالحة. فضلاً عن أن الظروف العامة الراهنة لا تشجع عليها. وإلى أن يحين الأوان المناسب للكلام النهائي يبقى فتح الباب أمام الكلام التمهيدي جائزاً لأنه يؤسس لبعض المبادئ التي لا يمكن أن تتم المصالحة إلا لو استوعبت كافة الأطراف أهميتها. من هذه المبادئ بإيجاز ما يلي:-

أولاً: أن التهيئة للمصالحة مسئولية الجميع لأن الورطة ورطة الجميع. أما من لا يشعر بالمسئولية فلا ينتظر أن يكون له مكان في عملية المصالحة أو في التمهيد لها.

ثانياً: من يتكلم عن المصالحة ويمارس الإرهاب لا يشعر يقيناً بالمسئولية. ولهذا فلا مصالحة مع إرهابيين أو على أسنة الرماح ودوي التفجيرات. لا مصالحة مع من اختار الدخول ضد الدولة والمجتمع في مناطحة. هؤلاء عليهم أن يستوعبوا أن وقف العنف شرط لازم لبدء المصالحة وأن ممارسته أملاً في تحسين شروط التفاوض وهم سبب لمقابلة العنف بالعنف.

ثالثاً: أن الهدف باستمرار هو الوصول إلى مصالحة تعيد بناء الأساس وليس تسوية مؤقتة لالتقاط الأنفاس. فكم من مرة مثلاً جرت فيها تسويات مع جماعات الإسلام السياسي ثم عادت الأمور لتنتكس من جديد. هذه الدائرة المفرغة من التسويات العقيمة لم تعد هدفاً بل مضيعة للوقت وتدليلً للعابثين.

رابعاً: ستبقى العين منصوبة باستمرار على الإخوان المسلمين. إنهم أكثر التشكيلات السياسية في مصر تعقيداً وعقداً وعقائدية. لا يمكن أن تسير المصالحة الآن بهم ولا يمكن أن تسير إلى ما لا نهاية بدونهم. لقد غدروا بالشراكة الوطنية بعد ثورة يناير فأضاعوا ثمارها، واليوم باتوا وثقة المجتمع والقوى السياسية فيهم صفراً مطالبين بخطوات كبرى ليسوا على استعداد لها. لكنها ستبقى ضرورية لتهيئة أجواء المصالحة. فهم يمسكون بحنفية الإرهاب وبإمكانهم أن يفتحوها ويغلقوها متى شاءوا كما قالت إحدى قياداتهم. وهم في ذلك لا يكذبون. فالجماعات الإرهابية الشقيقة والصديقة لها ليست إلا وكالات تنوب عنها أو فاترينات عرض تنشط لتخفف الضغط عليها. هذه الوكالات يجب أن تلغي وهذه الحنفية يجب أن تقفل.

خامساً: يحتاج الإخوان والقوى الإسلامية قاطبة إلى مصالحات مع ذاتهم ومراجعات شجاعة توقف التفكير بالمظلومية والاعتقاد بأنهم ضحايا مستدامون. وتهيئة أنفسهم لذلك ليست سهلة. فقد تعرضوا لخسارة تاريخية كبرى ولم تعد مشكلاتهم كما كانت من قبل مع الدولة وإنما أيضاً مع المجتمع. والتصالح مع المجتمع أصعب بكثير من التصالح مع الدولة. وهذا ما يتطلب من تلك الجماعات لو أرادت أن نهيئ أجواء المصالحة لتعاود الظهور من جديد في الحيز العام أن تطور خطاباً جديداً يناسب الحيز العام لأن خطابهم التقليدي الذي يسعي للاستيلاء على كل الحيز العام كان سبباً للخصومة ودافعاً لتأجيجها. ويبدو أن هذا الشرط أصعب بكثير من سابقه.

سادساً: أن تترسخ قناعة بأن المصالحة الوطنية أوسع بكثير من نزع فتيل التوتر بين الدولة وقوى الإسلام السياسي. فمصر بها أطياف سياسية مدنية تشكل طرفاً أصيلاً في أية مصالحة، تقف بقوة ضد العنف وتفهم بنضج في السياسة وتدافع بصدق عن الدولة وتتطلع بأمانة إلى حكم القانون. ومع هذا ما تزال مهمشة بل وباتت تشعر أنها تؤخذ بجريرة غيرها. المصالحة طريقها وعر يتطلب الضرب بيد من حديد على من يخرج على قواعدها لكنها تتطلب كذلك فتح الباب على مصراعيه أمام من يحترم تلك القواعد.

سابعاً: لن يهيئ للمصالحة إلا المصريون. وأي طرف يتصور أنه يستطيع أن يشارك فيها بضغط من أوصياء في الخارج لا يُهيئ إلا لفشلها. أحد شروط المصالحة أن يهيئ لها أصلاء وليس وكلاء يصطحبون معهم أشباح الدخلاء والأوصياء.

ثامناً: تغيير الوعي بالدولة المصرية وأن المطلوب ليس تغيير هويتها وإنما تحسين أداءها. فالدولة المصرية لا يجب أن تكون غنيمة كما جرى التفكير فيها قبل ثورة يناير وبعدها. التفكير فيها كغنيمة هو ما فجر الأوضاع ووترها. وإذا كان المجتمع قد عانى طويلاً من أدائها الخدمي إلا أنه كان على استعداد لأن يخدمها ويدافع عنها وهو يرقب من يحاول الاستئثار بها. الوعي بمعنى الدولة ركن أساس في المصالحة. فهي طرف لا يمكن تجاوزه وساحة يجب أن تكون مفتوحة للجميع ومجموعة قواعد لا يحق لأحد أن يحتكر وضعها.

هذه الشروط ليست مستحيلة لكنها غير متوافرة حالياً. فلا الإخوان وحلفاؤهم على استعداد لكف الأذى والاعتذار والمراجعة. ولا تلاعب الأوصياء بهم من الخارج توقف، ولا القوى المدنية أخذت مكانها المناسب، ولا الدولة فهمت كيف تعامل القوى السياسية كل بما يناسبه ولا تلك القوى استوعبت أن الدولة حجر زاوية غير قابل للاغتنام. الطريق إلى المصالحة لا يزال طويلاً والوصول إليها سابق لأوانه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف