الوطن
رجائى عطية
نور الفهم بين أغلال الجذور وأطلالها! (3 - 3)
يبدو أنه لا غنى للشعور بالمساواة عن وجود هدف قادر غالب متحكم فى نفس وعقل كل فرد، بحيث ينسى مع الشعور به، وتذكره، الدنيا وفوارقها نسياناً غالباً عميقاً تهون وربما تختفى معه القيم والأهداف الدنيوية بقضها وقضيضها، هذه الأهداف التى تواجه الملتفت إليها فى كل لحظة من صحوه ونومه، لكنه لا ينظر لغير دنياه ومطالبها ومتاعبها التى لا تنتهى.. فهل يمكن أن يتسع بفضل العلم والترقى والتطور ميدان الحياة والأحياء فى الكون الواسع أمام البشر جميعاً.. بحيث يمكن أن يبلغ أى فرد ما يريده بيسر وبلا عائق؟! أو هل يمكن أن يصل كل البشر إلى وسائل ميسرة قريبة من إراداتهم وأيديهم، تمكنهم من السيطرة التامة فى كل وقت على طباعهم ورغابهم وإخضاعها لصوت الأفهام والعقول، فيعرف كل فرد معرفة يقينية إمكاناته واستعداداته، ويرضى بالالتزام والوقوف عندها، ويستقبح أن ينظر إلى غيره نظرة الطامع أو الحاسد أو الحاقد أو الأنانى أو الطاعن أو المتحكم المستبد؟!

ما زودنا به الخالق عز وجل

يوقن معظم البشر بأنه بلغ أقصى إمكاناته متى جاوز صباه.. وهو اعتقاد يعينه على تقبل ذاته والرضاء عنها، لكنه يمنعه من المحاولة الجادة لمعرفة ما زوده الخالق (عزّ وجل) به، وهذا سبب لوجود الفروق واستدامتها.. لأنه ينتقل بين الأجيال بالمحاكاة والتوارث.. فنحن نبنى بأيدينا، دون أن نفطن، سلوك أولادنا ومستقبلهم من خلال قصورنا وإعراضنا عن صدق العزم وإدراك غاية المستطاع، ويبدو من هذه الناحية أن جانباً مهماً من الفروق التى نأسى لها ونشكو منها يرجع إلى إدمان ذلك القعود المفقر الذى تحجر فى أحيان كثيرة، فلم تنفع فى تقويمه أى عوامل يعترضها الاعتقاد فى الغالب لدى كل شخص أنه قد أتقن كل ما يمكنه معرفته من العلم!

مجال الإرادة

يتلقف الفرد بلا جهد أو تحقق، ما يأتيه من محيطه اليومى الضيق الذى تغشاه الأعراف المشبوهة والادعاءات والحيل!. ولكن مجال عمل الإرادة مقصور على الاحتمالات التى تنفذ فيها إرادتنا ومقاصدنا أو لا تنفذ، وذلك دون الحتميات التى لا حيلة لنا فيها. وهذه التفرقة أكثر تعقيداً مما نتخيله، لأن الحتميات متداخلة فى الاختيارات والاحتمالات، وهذه وتلك متداخلة فى الحتميات.. وحياة كل منا مزيج دائم من الاحتمالات والحتميات، ويحدث كثيراً جداً أن يخطئ وَعْيُنَا التقدير، فيوجه العزم والإرادة إلى وقف الحتميات أو تغيير مسارها، ثم نحس بالفشل والغم أو اليأس، أو نعتقد على غير صواب أن ما نقابله من الاحتمالات محتوم مكتوب فنستسلم له ونصاب بالإحباط.. وهذا وذاك ثمرتا الانقياد للعواطف الوقتية، والميل إلى المحاكاة، والاستسلام للعادات السائدة. وهى عوامل بالغة التأثير تتوارثها الأجيال والعصور، فتتأصل فى الجماعة وتصبح فى نظرها من الخصائص الملازمة التى يصعب جداً تغييرها!

تحكيم العقل

نادراً ما يحكّم الفرد عقله فى أمور حياته اليومية أو المعتادة، فإنْ فَعَل فعلى نحو سطحى يخلو غالباً من الأناة والتأمل وتقليب الرأى!

وهكذا يشارك حسن ظننا بأنفسنـا وبتصرفاتنا وخيالنا وفى أحيان كثيرة غرورنا.. يشارك دون أن نشعر فى إيجاد أسباب تلك الفروق الاجتماعية التى تقيمنا وتقعدنا كلما أحسسنا بها. وربما كان هذا من أهم أسباب الفروق الاجتماعية المزعجة ونتائجها المنفرة.. ولا يجبر هذا زيادة عدد المكافحين المصرِّين المجتهدين، لأن ذلك يزيد الفوارق وشدتها واتساعها وابتعادها عن المعقولية والإنسانية!

الخروج من البدائية الأولى

ومع كثرة شواغل الآدمى الخارجية، يزداد خروجاً من بدائيته الأولى التى يحتفظ بمعظم معالمها فى الأعم الأغلب. ومع كثرة الشواغل التى تأتى الآدمى من خارجه وأثرها المشهود فى إخراجه من بدائيته، نجد أنه إذا لم يشغله خارجه ويملك عليه معظم التفاته ووقته يحتفظ بالكثير من بقايا بدائيته اللهم إلّا أصحاب المواهب الفذة.. فهؤلاء لا تلبث مواهبهم أن تشعرهم بقوتها وتدفعهم دفعاً عميقاً إلى الاحتفاء بها وحصر اهتمامهم فيها مع صرف انشغالهم بغيرها مما يجذب العاديين.. وتأثير أولئك الأفذاذ حين ينتشر حال حياتهم، يكون صاحب الأصوات كثير التحرك ولكن قليل العمق، فإن انتشر بعد رحيلهم فلأنه يكون قد بدأ وصوله إلى أعماق النفوس وأخذ يختلط بها راصداً سارداً لأمزجتها وعواطفها وعاداتها وطرائق تفكيرها وأساليب لغتها أو لغاتها.. وبات تأثيره الغالب الواضح خلال ذلك الامتصاص تأثيراً مشتركاً اجتماعياً يخالف ما كان عليه تأثير صاحب تـلك الموهبة الفذة حال حياته، وصار عُرْضَةً لمسايرة نفوس الناس وعقولهم فى تعاقب الأزمنة واختلاف الأمكنة. إذ وصول التأثير إلى الأعماق يقتضى أن يأخذ هذا التأثير مكانه بين المؤثرات الأخرى الكامنة فى أعماق الآدمى.. ويبدو أن هذا حادث فى شأن كل اعتقاد وكل تقليد وكل اعتياد وكل ذى مشرب أو ذوق يلازم الجماعة فى تاريخها وماضيها الممتد الطويل. إذ إن صور التفكير إذا رحّب الناس بها لا تلبث أن تبهت.. لأن المؤثرات العميقة القديمة التى لم يصل إليها ذلك التغيير تظل تعمل عملها فى نفوس الناس فى الخفاء، وتجعل ثبات صور التغيير الجديدة مستحيل البقاء كما هى.

المحجوب عنا!

وهنا قد نبصر بشىء من الوضوح كمية التعقيد الذى فيه تركيب أجهزة وأعضاء الآدمى وملكاته واستعداداته، وأن أكثرها محجوب عن أعيننا، وأغلبها يخفى أمره وتأثيره على وعينا، وأن معظم ما نقوله أو نعرفه ليس وليد اللحظة، ولا هو حقاً حصيلة المعرفة الشخصية الواعية.. بل لعله أن يكون مجموع محصلات تتداخل وتشتبك وتتراكب ويقاوم بعضها بعضاً أحياناً ويسانده أحياناً أخرى فالفروق الاجتماعية التى نشكو منها تأتى أغلب نتائجها من مصادر لا نعيها بالضبط ولا سلطان لنا عليها فى أحيان كثيرة.. ولكننا مع ذلك لا نكف عن البحث والتفكير والتجريب والرصد والرغبة فى المزيد من الفهم والمعرفة.. وهو ما يزيد حتماً من قدراتنا على تصور أقرب للواقع وأقرب لتفادى النتائج التعسة لتلك الفروق.. وهذا التقريب هو وحده الذى حفظ لنا تقدمنا العلمى والحضارى، وما عداه أحلام وأوهام نغذى بها أشواقنا وآمالنا ونسكّن من طريقها آلامنا ومتاعبنا!!

قيمة الداخل

ومن الغريب جداً أن الآدمى، منذ أن وُجد، لا يفطن إلّا نادراً إلى أن معظم ما ينفعه أو يضره ويسيّره أو يقوده لا يأتى إلّا من داخله، ولا يفطن إلى أن داخله عالماً معقداً فيه القديم والجديد والبدائى والمتطور والبسيط والمركب، ولا إلى أن أحكامه غالباً ما تصدر عن القشرة السطحية الوقتية المتغيرة لذلك العالم المعقد.. مليئة بالأخطاء والمبالغات والانحرافات والأوهام والأحلام التى مع التكرار والتداول تزداد ابتعاداً عن الواقع وبالضرورة عـن الاتزان! وأن الفروق الاجتماعية التى يضيق أكثرهم بها وبنتائجها المؤسفة هى بصفة عامة لواحق وعواقب وثمرات مُرّة لاشتراك الجميع المتقارب نوعاً ومقداراً إرادياً كان أو غير إرادى فى السطحية والأنانية وقلة المبالاة والغرور والكسل والمحاباة والانحياز والتفضيل والمغالاة والعنف والخبث والحقد المولع بالثأر والانتقام والتلذذ بالقسوة والتمثيل.. وتلك عقبات كؤود فى طريق نجاح أى فكرة حسنة إذا لم تصادف من يتبناها بمقدرة وعزيمة وإخلاص وصبر وتعقل واتزان.

الخير والمحبة والعدل

بقى وسيبقى لدى البشر ترحيب بالخير والمحبة والعدل.. هذا الترحيب هو أقرب إلى الأمنية منه إلى الرجاء المصحوب بالسعى الجاد لحصوله.. لأنه ترحيب عام مبهم المعالم غامض الصورة لا يستطيع الآدميون حتى الآن أن يضحوا من أجله بشىء مما معهم أو شىء يشتهون أن يكون معهم.. وربما تأتى ظروف تكون حياة غالبية البشر أكثر انفراجاً واتساعاً، تسمح لكتلة الناس بالانعتاق من الحدود التى تكبلهم أو التى يخشون أن تكبلهم.. عندئذ سيكون الآدميون قد خرجوا من أَسْر النتائج المترتبة عندهم على اختلاف طبقاتهم وأفرادهم!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف